إبراهيم زرقه
منذ عام 2011 والسواد يجمع نساء سوريا، سواد القلوب وسواد الثياب. لم يوحّد سوريا سابقاً ولا اليوم إلا وجع نسائها وحزنهن المشترك ولون السواد المحيط بحياتهن. في صورة انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي، ظهرت نساء من إدلب متشحات بالسواد بانتظار جثامين أولادهن من الأمن العام، ممن قضوا في أحداث الساحل الأخيرة. هذه الصورة لا تعكس مجرّد لحظة من الألم، بل تختزل استمرار لعنة الموت التي تحاصر هذه البلاد. في تحوّل واضح لميزان القوى في سوريا، ظهرت وللمرة الأولى نساء يحظين بدفن لائق لذويهن، في حين كانت العادة تقتضي غياب أي شكل من أشكال الكرامة في الموت.
الأرامل والأمهات الثكالى أصبحن الوجه الصامت ولكنه الأصدق لمعاناة الحرب. هؤلاء النساء لم يخترن هذه الحياة، بل فُرضت عليهن بقسوة الواقع الاجتماعي والسياسي، ليجدن أنفسهن أمام حياة بلا أمان أو استقرار، إذ فقدن أزواجهن أو أبناءهن، بعضهم دفعته قسوة الظروف الاقتصادية للالتحاق بقوات الأمن العام، بحثًا عن لقمة العيش وحلمٍ بحماية الوطن، ولكن ما كان حلماً تحوّل إلى كابوس، حيث دفعت البلاد من دماء أبنائها ثمناً باهظاً لحربٍ لا ترحم.
وفيما كانت نساء المناطق المحررة يعشن القلق والترقّب، متشبّثات بخيوط الأمل التي ربما تأتي بعودة رجالهن أحياء من المعارك أو بأجسادٍ فارقتها الحياة، كانت نساء مناطق سيطرة النظام سابقاً يعشن مأساة أخرى في انتظار ذويهن المغيبين قسرياً في السجون. وفقاً لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هناك أكثر من 112 ألف شخص في عداد المفقودين، غالبيتهم من الرجال الذين اختطفتهم الحرب وسجونها، تاركين خلفهم عائلات تقف على حافة الانتظار القاتل. هذا الواقع المؤلم يجعل من النساء الضحايا الأبرز للحرب بصمتهنّ القسري، في مجتمع يشدّد قبضته عليهنّ، ولا يترك لهنّ سوى مساحة صغيرة للتعبير عن الألم.
في صباح آخر ألقى بظلاله الثقيلة على المجتمع السوري انتشر خبر مأساوي هزّ الأوساط المحلية حول مقتل فتاتين في ريف حلب الشرقي. القصة بدأت بعملية اختطاف وانتهت بجريمة شنيعة تُعرف بـ”جرائم غسل العار” نُفّذت بدمٍ بارد ودون أي شكل من أشكال المحاسبة أو المقاومة. جاءت هذه الجريمة كجزء من واقع يثقل كاهل النساء بمفاهيم متناقضة حول الشرف والكرامة، مفاهيم زُرعت عبر العادات والتقاليد لتصبح أداة تسلطية تُحمَّل فيها النساء العبء الأكبر.
على الرغم من أن العديد من السوريين عبّروا عن استنكارهم ورفضهم للجريمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه يبدو وكأنه هناك نوع من التواطؤ الخفي الذي يجعل هذه الجرائم تمرّ دون عقاب. هذا التواطؤ لا يقتصر على الذكور فقط، بل يمتدّ أحياناً ليشمل النساء أنفسهن، حيث يساهمن في تكريس الذكورية من خلال التربية التي تعزّز مفاهيم الهيمنة الذكورية. ذكرت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أنها وثّقت ما لا يقل عن 24 حادثة قتل بداعي الشرف بين كانون الثاني 2020 وشباط 2021، من بينها مقتل 16 امرأة على يد أقرباء لهن بحجة الشرف، بينما قُتلت ست نساء أخريات لأسباب يُعتقد أنها متعلّقة بذات الذريعة. هذه الأرقام التي سُجلت خلال عام واحد فقط، تُبرز انتشار هذه الجرائم وتوضح حجم المأساة التي تواجه النساء في مختلف المناطق السورية.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل معاناة المعتقلات السوريات السابقات اللواتي تمَّ نبذهن في بعض الأحيان من مجتمعاتهن بذريعة “الشرف والعار” بعد أن تعرّضن لانتهاكات جسيمة داخل سجون الأسد، ما يجعل هذه الحوادث وصمة عار تُستخدم كذريعة لتبرير العنف ضدّهن.
يتغلغل العنف ضدّ النساء بعمق في نسيج المجتمع السوري، حيث لم يعد مجرّد أفعال فردية، بل أصبح ظاهرة متأصّلة ومترسّخة في الثقافة السائدة. جرائم الشرف، المعتمدة على أعراف اجتماعية بالية، تُنتزع فيها حياة النساء كما لو كانت عقوبة مستحقّة، دون أدنى اعتبار لحقيقة أنهن غالباً ما كن ضحايا لهذه التقاليد ذاتها. في المناطق “المحررة” سابقاً، حيث تغيّرت الأطراف المسيطرة مرّات عديدة، وجدت النساء أنفسهن تحت وصاية ذكورية متجدّدة تأسرهنّ بقيود أخرى. فرضت هذه الوصاية عليهن الامتثال لأوامر الذكور، سواء كانوا من الأقرباء أم من الأوصياء الشرعيين.
إضافةً إلى ذلك، شكّل الزواج المبكر أحد أبرز أشكال هذا العنف، حيث تُجبر الفتيات في أعمار صغيرة على الزواج تحت مبررات مثل الحماية أو تحسين الظروف الاقتصادية، وفي حالات كثيرة، يُتخذ القرار من قِبَل ربّ الأسرة، سواء الأب أم الأخ، وأحياناً العم أو الخال، أو حتى الشيخ أو الوصي الشرعي الذي قد يُصدر فتوى تجيز هذا النوع من الزواج، لتُحرم الفتيات من طفولتهن وحقّهن في التعليم الذي قد يغيّر حياتهن. ورغم الجهود التي بذلتها بعض النساء لمقاومة هذه الممارسات ومنع تزويج بناتهن القاصرات، إلا أن الواقع المؤلم المتمثّل في النزوح والقصف وتدهور الوضع الاقتصادي استُغلّ من قِبَل البعض لتبرير هذه التصرّفات، ولم تقتصر هذه الممارسات على الذكور فقط، بل تحوّلت بعض النساء من دور الضحية إلى الجلاد، عبر تربية أجيال كاملة تتقبّل هذه الأفكار، وتكرّس مفاهيم اجتماعية تُبقي على العنف.
بقيت النساء عالقات في شراك واقع اجتماعي واقتصادي قاسٍ، تفاقم بفعل الحرب ومآسيها. فقدان العديد منهن للمعيل، سواء بسبب الموت أو التهجير، جعلهن يواجهن الفقر والعوز بشكل مباشر، ليصبحن تحت رحمة نظام تسلّطي يعزّز التبعية بأشكال متعددة. هذه التبعية تتجلّى بوضوح في السيطرة الذكورية التي تستمدّ شرعيتها من الأعراف والتقاليد، فتُحكم على النساء أن يتقبلن أوضاعاً ظالمة، من بينها العمل في أدوار مزدوجة كأب وأم، أو تحمل قيود الوصاية التي يفرضها ذكور العائلة، سواء كانوا قريبين أم بعيدين.
في ظل هذا المنظومة أصبح التعليم فرصة نادرة، ففي الوقت الذي وجدت فيه النساء اللواتي حصلن على تعليم جيد أنفسهن أفضل حالاً، وأكثر قدرة على تأمين استقلال اقتصادي لمواجهة هذه التحديات، وقعت الغالبية العظمى من النساء في دائرة مغلقة من الفقر والتبعية، حيث قلصت الظروف الاقتصادية والبيئة الاجتماعية فرصهن، وأصبحن محاصرات ضمن نظام ذكوري يحدّ من خياراتهن. هذه المنظومة لا تتوقف عند العلاقات الأسرية، بل تمتد لتشمل السلطة المسيطرة على تلك المناطق، التي تعاقبت بين قوى مختلفة، كل منها حاول إعادة صياغة المجتمع وفق توجهاته الخاصة، مما زاد من تعقيد معركة النساء للحصول على حقوقهن الأساسية.
السلطة الحاكمة لم تكتفِ بحرمان النساء من التعليم والعمل فقط، بل حاولت تقييدهن ضمن أدوار تقليدية تُكرّس الهيمنة الذكورية، سواء عبر الأعراف التي تضفي شرعية على هذه الممارسات، أو عبر تحوّلات سياسية تتجاهل احتياجات النساء. وسط هذا القهر الممنهج، كان النضال من أجل التعليم والعمل تحدياً صعباً محفوفًا بالمخاطر المرتبطة بتغير القوى المسيطرة وسعيها لترسيخ نفوذها بطرق تزيد من التضييق على النساء.
خلافاً لكل العقبات والصعوبات التي أحاطت بحياة النساء في الشمال السوري كانت هناك جهود نسائية واضحة لإحداث تغيير حقيقي في واقعهن. هذا النضال، الذي بدأ كحراك فردي وجماعي في بعض الأحيان، تطوّر إلى حركة منظمة دعمها تعاون محلي ودولي. سعت النساء، رغم القيود المفروضة عليهن، للحصول على تعليم أفضل وفرص عمل تضمن لهن استقلالية اقتصادية، ما مكنّهن من مواجهة المعوقات الاجتماعية والسياسية بنجاح، فتمكن البعض منهن من تحدي الوضع الراهن والارتقاء إلى أدوار قيادية في مجتمعاتهن، ونجحن في خلق مساحة أكبر لوجود المرأة في منظمات المجتمع المدني. لم يقتصر ذلك على التأثير المحلي فقط، بل امتد أيضاً إلى المطالبة بالتمثيل في المجالس المحلية من خلال المشاركة النشطة في الانتخابات، وهي خطوة كبيرة باتجاه كسر الصور النمطية السائدة عن أدوار المرأة.
على الرغم من هذا، لا يزال نضال النساء محفوفاً بالمخاطر، حيث تتعرض جهودنّ لمقاومة من جهات اجتماعية وسياسية تسعى إلى قمعها وإعادة فرض قيود تُعيق تقدمهن، ولكن وسط كل هذا الظلام، تستمر النساء في السعي بإصرار لتحقيق أحلامهن وكسر الحواجز التي طالما أعاقت حريتهن وحقوقهن.
إدلب، المدينة التي احتضنت أحلام التحرير يوماً، أصبحت اليوم لوحة معقدة تحمل في تفاصيلها مزيجاً من الأمل والظلم. جداريات المدينة، التي يُفترض بها أن تحكي قصص النضال والأمل، تحمل في طياتها رسائل متناقضة. فبينما تعكس بعض هذه الجداريات رمزية الصمود الشعبي والنضال من أجل الحرية، يعكس بعضها الآخر تسلطاً ذكورياً يجعل النساء الضحية الأبرز في تلك الحكايات. الجدران التي كُرّست لتوثيق نضال الشعب وتحوّلاته، أصبحت في بعض الأجزاء شاهداً على مظاهر الهيمنة التي تضيّق الخيارات أمام النساء، حيث تضمنت رسائل تمجّد الرجال كرموز للقوة والسيطرة، بينما تُقصي النساء وتضعهن في أدوار هامشية. هذه الجداريات لم تكن دائماً مصدراً للأمل، بل أصبحت أحياناً مرآة تعكس قيود المجتمع التي تُضاف إلى سلاسل الكفاح الذي تخوضه النساء يومياً من أجل انتزاع مكانتهن المستحقة.
وجدت المرأة الأرملة نفسها أمام حياة لم تكن في الحسبان، حياة تحمّلها أعباءً متراكمة، كأنها وحدها مسؤولة عن العيش والمقاومة في مجتمع يفرض الوصاية عليها من أقرب ذكر لها. في كلّ يوم، تقف هذه المرأة على جبهتين، الأولى لمواجهة الفقر والعوز، والثانية لتحدي التسلط الاجتماعي الذي يسعى لحصرها في أدوار تقليدية دون أدنى اعتبار لآلامها أو طموحاتها. هذه الظروف لم تترك لهنّ خياراً سوى خوض معاركهن بصمت وشجاعة، رغم انكساراتهن وأحزانهن التي لا تُرى إلا في عيونهنّ المثقلة بالدموع.
في ظل واقع مليء بالتحديات والتحوّلات، تبقى النساء في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام رمزاً للصمود والنضال. بين الفقر، التهجير، العنف، والوصاية الذكورية، كانت حكاياتهن شاهدة على قدرة الإنسان على التحدي رغم كل الصعوبات. هذه السرديات ليست مجرّد تفاصيل عابرة، بل هي صرخة للحرية والكرامة، دعوة لضرورة إعادة النظر في المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي تحاصر النساء وتضع قيوداً على حياتهن. إن نضالهن في هذه المناطق لم يكن فقط معركة من أجل البقاء، بل هو تأكيدٌ على حقهن في حياة أكثر عدلاً وإنصافاً.
