ريم سالم
في الدول التي تخلو من دور واضح للمؤسسات وتغيب عنها المحاسبة، تصبح الشعارات الوطنية العريضة مثل “السلم الأهلي” مجرّد أدواتٍ بيد من يسعى إلى تثبيت سلطته على حساب الدولة والشعب، وعندما تُختزل الدولة في شخص أو عائلة، تصبح تلك الشعارات سلّماً يصعد به أصحاب الطموح الشخصي، لا لتحقيق المصلحة العامة، بل للسيطرة على مفاصل الحكم، وتحقيق النفوذ والمكاسب الخاصة.
تجربة آل الأسد: تأسيس حكم العائلة باسم الجمهورية
منذ عام 1970، ومع استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سوريا عبر ما عُرف بـ”الحركة التصحيحية”، بدأت ملامح الدولة تتغير من نظام جمهوري نظري إلى نظام شمولي عائلي عملي. حافظ الأسد، الذي جاء من خلفية عسكرية وانتمى إلى حزب البعث، سرعان ما بدأ في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة لتكون أدوات في يد السلطة الأمنية، وتحديداً بيده وبيد عائلته.
مع مرور الزمن، تحوّلت سوريا إلى نظام أقرب إلى الملكية الوراثية، إذ أُقصي شقيقه رفعت الأسد، وجرى إعداد ابنه باسل ليكون خليفة له، وبعد مقتل باسل المفاجئ، تم إعداد بشار الأسد رغم أنه لم يكن يحمل خلفية سياسية أو عسكرية تؤهّله لهذا الدور، وبعد موت حافظ الأسد عام 2000، تم تعديل الدستور خلال دقائق لخفض الحد الأدنى لعمر الرئيس، ليتسلم بشار السلطة في مشهد كرّس مفهوم “التوريث”.
لم تقتصر سيطرة العائلة على الحكم السياسي، بل امتدت إلى الاقتصاد، الأمن، الإعلام، والدبلوماسية. أسماء الأسد، زوجة الرئيس، أصبحت رأس حربة في المشاريع الاقتصادية. ماهر الأسد، شقيق الرئيس، تولى قيادة الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، أقوى التشكيلات العسكرية. أبناء خاله، مثل رامي مخلوف، سيطروا على معظم الاقتصاد السوري.
كل ذلك جرى تحت شعار “الوحدة الوطنية” و”السلم الأهلي”، بينما كانت البلاد تسير نحو التفكك والانفجار. وعندما انطلقت الثورة السورية عام 2011، كانت نتيجة طبيعية لعقود من الإقصاء والقمع والفساد.
لكن اللافت هو تصاعد دور بعض أبناء العائلة في الآونة الأخيرة، بما يشير إلى سعي حثيث لترسيخ نفوذ شبيه بما فعله آل الأسد في وقت سابق. شخصيات من عائلة الشرع بدأت تُطرح كوجوه قيادية داخل الإدارات المحلية والمجتمعية، ويجري تسويقها كبدائل “مقبولة” أو “محايدة” عن السلطة المركزية.
آل الشرع (الجولاني): من فصيل مسلح إلى قيادة المرحلة الانتقالية في سوريا
في تطور سياسي وأمني مفصلي، بات أبو محمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، الرئيس الفعلي للمرحلة الانتقالية في سوريا، بعد سلسلة من التحوّلات والتوافقات الداخلية والخارجية التي أفضت إلى إقصاء النظام السابق من المشهد. تولّي الجولاني هذا المنصب جاء نتيجة مسار طويل من الهيمنة العسكرية في الشمال السوري، وتحوّله من قائد فصيل إلى شخصية مركزية في صناعة القرار الوطني، وخاصة بعد تنصيبه من قبل قادة الفصائل دون أي انتخابات.
بموازاة صعوده، برز شقيقه ماهر الشرع كأحد أهم أعمدة السلطة الجديدة، حيث شغل منصب الأمين العام للرئاسة السورية، بعد أن كان وزيراً للصحة في حكومة تسيير الأعمال، كذلك تمّ تعيين ماهر مروان المعروف ب “أبو ماجد الشامي” في منصب محافظ دمشق. وبحسب المصادر مروان له صلة قربى مزدوجة مع الجولاني. فهو من ناحية ابن خالته ومن ناحية ثانية هو عديله جراء زواجه من شقيقة زوجة الجولاني.
سابقاً في إدلب، تم تكليف ماهر مروان بمناصب عديدة أهمها مرافقة الجولاني (منصب ذو طابع أمني) قبل أن يجري تعيينه قاضياً في محكمة سرمدا، وبعد ذلك تولى منصب المفتش القضائي ثم عضو مجلس القضاء الأعلى، وكذلك منصب رئيس هيئة الزكاة وعضو المجلس الاستشاري.
هذا التحوّل في المشهد السوري يعيد إلى الأذهان نمط حكم العائلات الذي شهدته البلاد سابقاً، حيث تتداخل القرابة العائلية مع مراكز السلطة، ويتم تقاسم مفاصل الدولة بين الأقارب والمقرّبين. فبعد أن كانت إدلب مركز حكم محلي للهيئة، باتت دمشق مقراً لحكم موسع، يهيمن عليه الجولاني وشبكته الضيقة.
السلطة الجديدة وإن جاءت بتسميات مدنية، إلا أنها تحكم من خلال أجهزة أمنية وعسكرية مشكّلة سلفاً في الشمال، أعيد دمجها ضمن هيكل الدولة. وتم الإبقاء على أدوات الرقابة والضبط الاجتماعي والإعلامي نفسها، مع ترويج خطاب جديد يُظهر الجولاني كرجل دولة إصلاحي يسعى لتجاوز أخطاء الماضي.
لكن الواقع على الأرض يشير إلى تكريس حكم عائلي جديد، يستلهم نموذج آل الأسد في السيطرة والإدارة، وإن غيّر الأسماء والشعارات. وما تزال ممارسات إقصاء المعارضة، وتقييد الحريات، والتحكم الكامل بالاقتصاد والمعابر، مؤشراً واضحاً على أن السلطة الجديدة تكرّر ذات المسار القديم.
النتائج الكارثية لحكم العائلات
يؤدي تركيز الحكم في يد عائلة واحدة إلى نتائج كارثية تطال بنية الدولة والمجتمع على حد سواء. إذ تتفكك مؤسسات الدولة لتخدم مصالح العائلة بدل أن تكون أدوات في خدمة الشعب، وتُفصّل القوانين لحماية المتنفّذين لا لتحقيق العدالة، يغيب مبدأ المحاسبة، ما يفتح الباب واسعاً أمام الفساد والنهب، ويعمّق الانقسامات الاجتماعية نتيجة شعور قطاعات واسعة بالتهميش والغبن. يتحوّل الاقتصاد إلى شبكة مغلقة من الامتيازات والمصالح الخاصة، ما يضعف الإنتاج ويشلّ التنمية، وتتفجر الأزمات تباعاً تحت ضغط القمع والاستبداد، ليجد المجتمع نفسه أمام دائرة متكررة من الانفجارات والدمار.
ما يثير القلق هو أن بعض هذه المحاولات تجري مجدداً تحت شعار “السلم الأهلي”، وهو ذات الشعار الذي استُخدم لتبرير بقاء آل الأسد في السلطة لعقود. وإذا ما تحول هذا السِلْم إلى “سلّم عائلي” جديد، فإن النتيجة ستكون ببساطة إعادة تدوير التجربة السابقة ولكن بوجوه جديدة.
بين السلم الأهلي وسُلّم السلطة
يجب التمييز بدقة بين “السلم الأهلي” كمفهوم وطني جامع، يقوم على احترام التنوع والعدالة، وبين استخدام هذا المفهوم كأداة للهيمنة. حين يُستخدم شعار السلم الأهلي كغطاء لبسط سيطرة عائلة ما، يتحول إلى نقيضه تماماً، ويصبح أداة للقمع بدل أن يكون ضمانة للاستقرار.
أظهرت التجارب في سوريا على مدى العقود الماضية أن اختصار الدولة في يد عائلة واحدة يؤدي إلى كارثة وطنية. لا يمكن ببساطة استبدال هذا النموذج بعائلة أخرى تحت مسميات مختلفة. بناء دولة مدنية ديمقراطية تشمل جميع المواطنين يتطلب القضاء على منطق الحكم العائلي بجميع أشكاله، وليس استبداله بعائلة جديدة.
وتجب الإشارة إلى أنّ المشكلة ليست في اسم العائلة التي تحكم، بل في المنظومة التي تسمح لعائلة واحدة أن تتحول إلى الدولة نفسها. وبينما ترفع بعض الأطراف شعار “السلم الأهلي”، لا بد من التحقق من نواياها: هل هو سلم لبناء دولة عادلة؟ أم سلم تصعد عليه إلى قمة الهيمنة؟
وإذا كان الماضي قد علّم السوريين مرارة التوريث والاستبداد، فإن الحاضر يدعوهم لتأمل الطريق مجدداً: هل يريدون تكرار المشهد نفسه مع ممثلين جدد؟ أم كسر الحلقة وبناء وطن يتسع للجميع؟ ففي النهاية، الشعوب وحدها قادرة على كسر السلالم التي لا تقود إلا إلى القهر.
