نور سليمان
تصدر الحكومة السورية بين الفينة والأخرى قرارات أقل ما يمكن وصفها بأنها “عجيبة وغريبة”، إذ تثير جدلاً واسعاً بسبب تعارضها مع القانون أو لكونها غير متسقة مع حاجات المجتمع الفعلية. هذه القرارات، التي يراها البعض عبثية وتفتقر إلى التخطيط، تعكس أزمة عميقة في آليات الحكم والإدارة، حيث يبدو أن الحكومة تتصرف بعشوائية، غير مكترثة بتبعات قراراتها على المواطن أو على استقرار النظام القانوني في البلاد.
واحد من أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك هو القرار رقم 53 الصادر عن وزير الخارجية والمغتربين، الذي يهدف إلى إنشاء “الأمانة العامة للشؤون السياسية” داخل الوزارة، متجاوزاً بذلك صلاحيات المؤسسات القائمة، ويطرح تساؤلات حول مدى انسجامه مع القوانين النافذة والإعلان الدستوري. هذا القرار ليس الوحيد الذي يثير الشكوك حول أداء حكومة تسيير الأعمال، إذ أنّ التوجه الحكومي نحو فرض إجراءات متضاربة مثل إغلاق البارات والمطاعم ومن ثم إعادة فتحها بحجج بيروقراطية، يؤكد أننا أمام نمط حكم يعتمد على ردود الأفعال العشوائية بدلاً من التخطيط المتوازن.
غياب الرؤية وتضارب الصلاحيات
القرارات الحكومية الأخيرة تكشف عن فجوة كبيرة بين التشريعات الرسمية والممارسات الفعلية على أرض الواقع. ففي ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية، يُنتظر من الحكومة التركيز على تحسين حياة المواطن ودعم الاستقرار، لكن بدلاً من ذلك، نجدها تصدر قرارات تعزز الفوضى القانونية والإدارية.
القرار 53، على سبيل المثال، يعكس مشكلة أعمق تتمثل في تضارب الصلاحيات بين الوزارات والجهات التنفيذية. إذ أن إنشاء “الأمانة العامة للشؤون السياسية” داخل وزارة الخارجية يبدو وكأنه محاولة لتوسيع نفوذ الوزارة على حساب جهات أخرى، ما يفتح الباب أمام مزيد من الصراعات البيروقراطية بدلاً من العمل على تحسين أداء الدولة.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالحكومة باتت تستخدم القانون كأداة لتنفيذ أجندات غير واضحة المعالم، ففي كثير من الحالات، يتم سنّ القوانين وإلغاء القرارات بشكل متكرر، دون تقديم مبررات واضحة أو دراسة مسبقة لمدى تأثيرها على الاقتصاد أو المجتمع.
قرارات تضر بالمصلحة العامة
في سياق القرارات غير المدروسة، نجد أن التأثيرات الاقتصادية تكون الأكثر وضوحاً، حيث تتسبب هذه السياسات في خلق بيئة غير مستقرة للمستثمرين وللمواطنين العاديين على حد سواء. حين تصدر الحكومة قرارات بتغيير هيكل المؤسسات وإلغاء قوانين سابقة دون تقديم بدائل واضحة، فإنها بذلك تعزز حالة عدم اليقين الاقتصادي.
القرار 53 مثال واضح على ذلك، إذ أنه يعيد تشكيل هيكل وزارة الخارجية بطريقة تتعارض مع القانون، ما قد يؤدي إلى فوضى إدارية وتضارب في الاختصاصات. هذا الأمر ينعكس سلباً على العلاقات الخارجية للدولة، حيث أن السياسة الخارجية تحتاج إلى وضوح وثبات، وليس إلى تغييرات ارتجالية تجعل من الصعب على الدول الأخرى التعامل مع الحكومة السورية بجدية.
من جانب آخر، تؤثر هذه القرارات سلباً على سمعة الحكومة في الداخل والخارج. فعندما يرى المواطن أن الحكومة تتخذ قرارات تعسفية، مثل إغلاق منشآت تجارية ثم إعادة فتحها بحجج متضاربة، يفقد ثقته في مؤسسات الدولة، ويشعر بأن القرارات لا تستند إلى أي منطق قانوني أو اقتصادي، بل هي مجرد وسيلة لخدمة مصالح معينة داخل دوائر الحكم.
عدم احترام القوانين والإعلان الدستوري
من أخطر ما يمكن استخلاصه من هذه القرارات هو أنها تعكس عدم احترام واضح للإعلان الدستوري والقوانين النافذة، ففي ظل الأوضاع الحالية، يحتاج المواطن إلى حكومة تتصرف وفق إطار قانوني واضح، لا إلى جهة تشرّع وتلغي القوانين حسب أهوائها.
القرار 53 يثير تساؤلات دستورية هامة، لأنه يغير في بنية وزارة الخارجية دون الرجوع إلى أي مرجع قانوني واضح. كما أن الإجراءات الأخرى مثل الإغلاق العشوائي للبارات والمطاعم، ومن ثم إعادة فتحها تحت ذريعة التراخيص، تؤكد أن هناك انحرافاً خطيراً عن مبدأ سيادة القانون، حيث باتت القرارات تصدر بشكل ارتجالي دون مراجعة دستورية حقيقية.
هذا النهج في الحكم لا يعزز الاستقرار، بل يساهم في زيادة حالة التوتر الاجتماعي، ويدفع المواطنين إلى الاعتقاد بأن القوانين لم تعد وسيلة لتنظيم المجتمع، بل أصبحت أداة سياسية تستخدم حسب الحاجة.
واحدة من أكثر الأمثلة وضوحاً على التخبط الحكومي في اتخاذ القرارات هو ما شهدناه مؤخراً من حملة حكومية لإغلاق البارات والمطاعم تحت ذريعة “عدم الترخيص”، ثم إعادة فتحها بعد ضغوط شعبية وتبريرات متناقضة.
في البداية، تم تنفيذ حملة إغلاقات واسعة شملت العديد من الأماكن الترفيهية والمطاعم في باب شرقي بدمشق، بحجة عدم التزامها بالشروط القانونية. لكن ما أثار الدهشة أن العديد من هذه المنشآت كانت تعمل منذ سنوات تحت تراخيص رسمية، ومع ذلك تم إغلاقها دون أي مبرر قانوني واضح.
بعد أيام من الاحتجاجات والاستياء الشعبي، خرجت الحكومة بتبرير جديد، زاعمة أن الإغلاق كان “إجراءً تنظيمياً”، وأن المنشآت يمكنها إعادة فتح أبوابها بعد تصحيح أوضاعها القانونية. المفارقة هنا أن معظم هذه الأماكن لم تقم بأي تغيير فعلي، بل عادت للعمل كما كانت، مما يعني أن الإغلاق لم يكن سوى قرار تعسفي اتُخذ دون دراسة، وتم التراجع عنه بعد ضغط الشارع.
هذا السيناريو يكشف عن عقلية الحكم الحالية: قرارات عشوائية، ثم تبريرات غير مقنعة، يليها تراجع بعد تصاعد الغضب الشعبي. هذه الديناميكية لا تؤدي إلى استقرار قانوني أو اقتصادي، بل تساهم في إضعاف هيبة الدولة وتفكيك ثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية.
الحاجة إلى إصلاح حقيقي
ما يحصل اليوم في سوريا من قرارات ارتجالية، سواء في إعادة تشكيل الوزارات أو في الإجراءات التعسفية مثل إغلاق وفتح المنشآت التجارية وفق أمزجة متغيرة، يعكس مشكلة عميقة تتجاوز مجرد سوء الإدارة، لتصل إلى أزمة في شرعية الحكم ذاته.
إذا كانت الحكومة ترغب في استعادة ثقة المواطن، فعليها أن تبدأ بإصلاح جذري لآلية اتخاذ القرار، بحيث يكون القانون هو المرجعية الأولى والأخيرة في أي إجراء، وليس المصالح السياسية أو الاعتبارات الفردية، وهو ما يأمله المواطنون من الحكومة المؤقتة المنتظر الإعلان عنها مساء اليوم، أما استمرار النهج الحالي، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الفوضى والانهيار، حيث تصبح القوانين بلا معنى، وتتحول الحكومة إلى مجرد جهة تصدر قرارات لتلغيها لاحقاً، دون أي رؤية واضحة للمستقبل.
