FPN – سلام العبدالله
في زوايا عفرين تختبئ حكايات نازحين من غوطة دمشق الشرقية؛ عائلات أنهكها التهجير ولم تعد تملك حتى أجرة الطريق للعودة إلى مدنها، وفي الجهة الأخرى، يقيم أهالي عفرين أنفسهم كنازحين في القامشلي والرقة، تستهلكهم آمال العودة دون أن تلوح في الأفق أي بادرة أمل.
مشهد يعكس الثمن الباهظ الذي يدفعه السوريون، ممزقين بين أحلام العودة وصعوبات الحياة اليومية، وبين بيوت سُلبت وحرب لم تنتهِ آثارها بعد؛ معاناة مستمرة يعيشها مدنيون يدفعون ثمن صراعات لم يختاروها.
مهجرو الغوطة بين التشرّد والانتظار
محمد الهادي، أحد المهجرين من الغوطة الشرقية والمقيم حالياً في مدينة عفرين، يقول لشبكة الصحافة الحرة: “نحن من الغوطة الشرقية، هُجّرنا عام 2018، ومنذ ثمانية أشهر أصبحت منطقتنا محرّرة، كثير من العائلات المقتدرة استطاعت الخروج، أما الفقراء مثلنا، فبقينا هنا لأننا لا نملك حتى أجرة النقل”.
يوضح الهادي أن تكلفة العودة إلى دمشق مرتفعة جداً، وأن المنظمات التي تساعد في النقل تقتصر خدماتها على مناطق إدلب وأطمة، بينما لم يلتفت أحد إلى عفرين، ويضيف: “نعرف أن أهالي عفرين يطالبون باستعادة بيوتهم، وهذا حقّهم الطبيعي، وقد أُعطينا مهلة قصيرة للمغادرة، لكننا ببساطة لا نملك تكاليف الرحيل، ولا نملك منزلاً نعود إليه، فالغوطة مدمّرة بالكامل”.

يقيم في الشارع ذاته عشر عائلات من مهجري الغوطة، وفي الحي المجاور هناك نحو 25 عائلة، وكلهم لا يعرفون عدد العوائل التي سيُطلب منها المغادرة ما يتركهم في قلق دائم.
“أُجبرت على الخروج من الغوطة في رحلة تنقّلت فيها من إدلب إلى عفرين. كنت وقتها في الثانية والخمسين من عمري، ورُحّلت بسبب نشاط أخي وابن عمي في الجيش الحر. لم يكن خياري، واليوم أعيش مع زوجتي وأطفالي السبعة، لا نعرف إلى أين سنذهب بعد الآن”، يقول محمد الهادي.
صعوبات الحياة في القامشلي
في المقابل، يعيش خليل النعمان اليوم في غرفةٍ داخل إحدى المدارس بمدينة القامشلي، يواجه حرّ الصيف القاسي وبرد الشتاء القارس، بعد أن نُقل من مخيم تل رفعت، حيث قضى فيه ستّ سنوات، ثمّ أُجبر بعدها على الرحيل، وتم نقله مع آخرين عبر حافلات تابعة للإدارة الذاتية بعد سقوط النظام السابق.
مكث خليل أربعة أيام في ملعب بالرقة، قبل أن يُنقل إلى مدرسة تفتقر لأبسط مقومات الحياة. كان الأمل يرافقهم بعودة قريبة إلى مدينتهم، ووُعدوا ألا تزيد المدة عن الشهرين، لكن مرت أكثر من ثمانية أشهر دون أي تغيير. يقول خليل: “لا ماء، لا كهرباء، ولا خدمات طبية. المساعدة اقتصرت على بعض المبادرات الأهلية من سكان المدينة، والقليل من الدعم من الإدارة الذاتية، لكن الحياة هنا شاقة، والمبادرات الأهلية لا تدوم طويلاً أمام صعوبة الظروف، أما المساعدات الرسمية فتكاد لا تذكر”.
يقارن خليل واقعه المؤلم بما كان يملكه في عفرين: منزل، أرض، ومساحة زراعية تضم أكثر من 300 شجرة زيتون. اليوم، يعمل مع ابنه الأكبر في سوق الهال مقابل أجر زهيد، فهو معيل لأسرة مكوّنة من خمسة أطفال، أكبرهم يبلغ 16 عاماً، بالإضافة إلى والدته المسنّة، بالإضافة إلى أخته، وهي من الأشخاص ذوي الإعاقة وتحتاج إلى رعاية صحية خاصة.
يتابع خليل حديثه لشبكة الصحافة الحرة بصوت تغلبه الحسرة: “عمري 47 عاماً، لكنني أشعر وكأنني في السبعين، يعتصر قلبي الألم حين أرى والدتي تعاني من حرّ الصيف داخل هذه الغرفة الضيقة. من أوصلنا إلى هذا المصير؟ ولماذا لم تنتهِ هذه الحرب حتى الآن؟”

استغلال الفصائل والضغوط على النازحين
رواية أخرى جديدة تسلط الضوء على استغلال المدنيين، إذ تروي لشبكة الصحافة الحرة الشابة مريم العمري من ريف إدلب، والمقيمة حالياً في عفرين، قصتها مع المعاناة والنزوح، فتقول: “اضطررنا لمغادرة معرة النعمان عام 2019 بسبب شدة القصف من قبل النظام السابق، والذي أدى إلى مقتل أخي، وابنه الصغير، وابن أختي، وأخي الآخر. بعد تلك الفاجعة لم تعد والدتي تحتمل البقاء هناك، فغادرنا إلى عفرين، أنا وأمي وإخوتي وأبناء أخي الشهيد. تمكّنت أنا وأختي من العثور على عمل، واستأجرنا منزلاً في عفرين مقابل 50 دولاراً، بعد عام، انتقلنا إلى منزل آخر كان إيجاره في البداية 60 دولاراً، ثم ارتفع إلى 100 دولار، وكان علينا دفع الإيجار سنوياً من خلال مكتب عقاري. لكن في عام 2021، استولى “فصيل الشرقية” على المكتب، وأصبح الإيجار يذهب للفصيل بدلاً من مالك المنزل الأصلي، الذي كان مهجّراً.
وتضيف مريم: “المنزل كان شبه خالٍ من أبسط مقومات العيش؛ لا خزان مياه، ولا شبابيك أو أبواب، ولا حمام. بدأنا نحن بترميمه شيئاً فشيئاً من مواردنا البسيطة. قبل ثلاثة أشهر، عاد المالك الحقيقي، وهو رجل من عفرين، وطلب منا مغادرة المنزل، وهذا أمر مفهوم وحق مشروع للمالك. أوضحنا له أن لدينا عقد إيجار حتى نهاية شهر أيلول، وتفهم الموقف بلطف. تفاوضنا معه ووافق أن نبقى حتى شباط المقبل مقابل ترك التحسينات التي أجريناها في المنزل، لكن أحد عناصر الفصيل علم بالاتفاق، وبدأ بمضايقتنا، مطالباً بدفع إيجار جديد لعام كامل بقيمة 1200 دولار، وهدد بأنه لن يسمح للمالك بإخراجنا. رفضنا ذلك، وتمسّكنا باتفاقنا مع المالك الذي احترم ظروفنا”.
تتابع مريم: “مرّ أكثر من شهر ونحن نتعرّض للمضايقات من عناصر الفصيل. المقلق أن العنصر أصبح يدّعي أنه جزء من الحكومة السورية الانتقالية. نحن اليوم نعيش بين واقع اقتصادي قاسٍ وذكريات مأساوية في معرة النعمان بعد تدمير منزلنا هناك، لا نملك بيتاً، ولا أماناً، والضغوط مستمرة. نحن، وكثيرون مثلنا، نُسحق تحت استغلال الفصائل المسلحة لنا دون وجود أي جهة تنصفنا أو تقف معنا”.
على الرغم من اختلاف المدن والوجع، إلا أن مصير النازحين السوريين يبدو متشابهاً، تتبدّل الأسماء والمواقع، لكن القهر واحد، فكما يعيش مهجرو الغوطة والمعرّة معاناة التشبّث بمكان لا يملكون غيره، يكابد مهجرو عفرين آلام التهجير والانتظار في شمال شرقي سوريا، وبين من ينتظر القدرة على العودة، ومن ينتظر حق البقاء المؤقت، تمتدّ خيوط معاناة لا تنقطع، تشهد على مأساة شعب أنهكته الحرب، وتركته يتنقل بين الخيام والمدارس، بحثاً عن حياة لا تزال مؤجّلة وسط صمت دولي وتجاهل الجهات المسؤولة لمعاناتهم.
