FPN – دلير يوسف
ونقصد بـ”هذا الحال”، الوضع الاجتماعي الصعب وقلة الثقة بين الناس والتفرّق والتمزّق والطائفيّة والتعصّب والتخندق في خنادق ما قبل وطنية، وهذا هو حال سوريا منذ زمن طويل.
سقط نظام الأسد منذ ثلاثة شهور، والأوضاع في سوريا من أصعب ما يُمكن: حال اقتصادي سيء، لا كهرباء، لا ماء للشرب، لا خدمات، لا أموال في أيدي الناس، البنية التحتية متهالكة، وفوق كلّ ذلك سلاح منفلت في كل مكان. الأوضاع الإقليمية لا تساعد، مصالح تركية وسعودية وإسرائيلية وقطرية وأمريكية وروسية وأوروبية مختلفة في سوريا، وكلّ منهم يسعى لفرض أجندته. إسرائيل تقتطع بعض الأراضي السورية لنفسها، وتركيا تحاول إبقاء قواعد عسكريّة دائمة لها في سوريا، وروسيا تحاول الحفاظ على ما أعطاها إياه الأسد قبل سقوطه.
كلّ هذا في بلد مفتت لا يجتمع اثنان فيه على رأي. يبدو أن لا حلول جماعية لسوريا اليوم، “مشكلات أمنية” في المنطقة الساحليّة، لا يعلم أحد ما الذي سيحدث مع الأكراد في شمال شرقي البلاد، في الجنوب يبدو أن العودة وجماعته قد شكّلوا لأنفسهم دويلة صغيرة في بعض جيوب درعا، وفي السويداء يبدو الدروز مختلفون فيما بينهم على رأيهم في حكّام دمشق الجدد. لا ثقة بين السوريين اليوم.
يبدو الحل في سوريا اليوم عصيّاً، على الرغم من الدعوات المتكرّرة من مثقفين/ات وناشطين/ات إلى حوار عام شامل يبني مخرجاً من هذا الحال، ويقصدون حواراً حقيقياً، ليس مثل ذلك الذي عُقد قبل أيام ولم يكن له لا طعم ولا لون.
لكن نتساءل في الوقت ذاته: هل يُمكن أن يقوم مثل هذا الحوار في هذه الأوضاع؟ وإن قام، فهل فعلاً يُمكن أن تخرج منه نتائج تبني سوريا المستقبل القائمة على مبادئ الحريّة والعدل والكرامة؟
شخصياً أشكّ في ذلك، وأفكّر بوجود سببين رئيسيين في وصولنا إلى هذا الحال، أوّلهم عدم وجود هوية جامعة للسوريين، وثانيهما الاستعداد الدائم للعنف لدى شرائح واسعة من السوريين.
في أولى الأسباب: سوريا لم تكن دولة ذات هوية واضحة طوال تاريخها. في تاريخها الحديث كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وبعد الحرب العالمية الأولى نالت “استقلالها” وبعد محاولات ملكيّة واتحادية مختلفة بجغرافيات مختلفة أُعلنت الدولة السوريّة عام 1925 وهي واقعة تحت الانتداب الفرنسي، وعام 1930 وُضع أول دستور للجمهورية السوريّة، وأُعلنت “الجمهوريّة” السوريّة التي انتخبت عام 1932 محمد علي العابد كأول رئيس للجمهوريّة.
لم تثبت جغرافية سوريا حتى السنوات الأخيرة من الثلاثينيات، وبقيت تحت حكم الانتداب الفرنسي حتى عام 1946، استطاعت خلالها أن تبني ما يشبه الهوية الوطنيّة، لكن الانقلابات المتتالية بعد الاستقلال وصولاً إلى الوحدة مع مصر عام 1958، منعت السوريين والسوريات من بناء هويّة جامعة لهم.
في عهد الوحدة مع مصر وحكم جمال عبد الناصر اكتسبت سوريا طابعها العروبي، طاردة مكونات كثيرة خارج “الوطن” السوري العربي، مثل الأكراد. واستمرت العروبة تحكم سوريا حتى وصول حافظ الأسد إلى السلطة في نهاية الستينيات، وحكمه لسوريا منذ عام 1970 بالحديد والنار، وصبغ البلاد باللون الأسدي، مانعاً تشكيل أي هوية جامعة.
جاءت الثورة في العام 2011 وقدّمت هدية للسوريين والسوريات ومنحتهم وطناً يحلمون بمستقبله للمرة الأولى، لكن ما لبث الأمر أن تحوّل الأمر، بسبب الحرب التي شنّها الأسد على الشعب بشكل رئيس، إلى حرب أهليّة، فتخندق كلّ لدى طائفته أو عشيرته أو قوميّته، وحين سقط النظام لم يجد الناس وطناً ينتمون إليه، بل عشائر وطوائف وقوميات ما قبل وطنية يبحثون فيها عن هويّات تمثّلهم.
(لا ندافع عن الوطنيّة بصفتها هدفاً للعيش، لكنّنا نرى أنّ تحقيق شرط الوطن والمواطنة هو خطوة أساسية في سبيل تحقيق العيش الحرّ الكريم.)
نقول ربّما إن كان هدف الحوار الوطني الشامل هو إيجاد هوية جامعة للسوريين والسوريات، قبل الحديث عن شكل الدولة، أمراً محموداً.
ثاني السبَبين اللذين سبق ذكرهما، هو الاستعداد الدائم للعنف، هذا الاستعداد الذي يتّسم به كثيرٌ من البشر في كثيرٍ من المناطق المختلفة في العالم، فكيف بمنطقة لم تنته فيها حرب لتبدأ أخرى منذ مئات السنين.
أكاد أقول إنّ الاستعداد الدائم للعنف في أيّ موقف من مواقف الحياة هو أحد السموم الرئيسية التي تعطينا إيّاها الحياة، والتي يجب أن يحاربها المرء ما استطاع حتى يستطيع المحافظة على نفسه وعلى “وطنه” من بعده.
من أجل سوريا المستقبل، يجب ترسيخ مبدأ اللاعنف كأساس للتعامل بين البشر وبين الجماعات. لا حلول تأتي بالعنف، فالمعروف أنّ العنف يجرّ العنف، ولا حريّة ولا كرامة ولا أخلاق ولا عدالة تُبنى على العنف، وهذه تجارب الدول الأخرى، وتجاربنا التاريخية، أمامنا شاهدة.
