FPN – ليلى جروج
“بالكتب ما بقى بدي أشتغل”، بهذه الكلمات ردّ الأستاذ أسامة على سؤال حول الكتب المتوفرة للبيع في مكتبته. أسامة؛ الذي حقق سابقاً حلمه في امتلاك مكتبة صغيرة، بعد أن كان يبيع الكتب على “بسطة” متواضعة في حي صلاح الدين بمدينة حماة ومن ثم في كشك صغير -مخالف- في ذات الحي.
بالتأكيد مكتبة أسامة ليست الوحيدة التي أغلقت أبوابها في سوريا، مع تعدد أسباب ذلك، فالتضخّم، وتردّي جودة الكتب ونوعيّتها، بالإضافة إلى التضييق الأمني خلال فترة حكم النظام السابق، تعدّ عوامل أساسيّة لتوقّفها عن العمل، واليوم، بعد التغييرات السياسية والاقتصادية في “سوريا الجديدة”، يُطرح تساؤل حول واقع المكتبات فيها، وكيفيّة تعامل أصحابها مع هذه التغييرات، والصعوبات التي يواجهونها.
المتاجر الإلكترونية بدلاً من الرفوف
انتشرت التجارة الإلكترونية في سوريا مع التحسّن النسبي في جودة الاتصالات وزيادة الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي، ما فتح المجال أمام كثيرين للبحث عن مصادر جديدة للدخل، من الأغذية والملابس وتقديم الخدمات، ووصولاً إلى الكتب.
مؤسس أحد المتاجر الإلكترونية لبيع الكتب، عصام عبود، يُعزي اختياره لبيع الكتب إلى سببين، الأول هو أنها مهنة مؤقتة، أما الثاني فيعود إلى العوامل اللوجستية، ويوضح لشبكة الصحافة الحرة: “في حال وضعت الكتب على الرصيف فستتعرض للعوامل الجوية التي قد تؤدي إلى تلفها، بالإضافة إلى فرض مخالفات من قبل البلدية”، كما يشير إلى أن فكرة استئجار مكان غير واردة بسبب ارتفاع الأسعار، وهو ما يعني زيادة التكاليف وبالتالي رفع سعر المبيع.
أما قصي عيسى العلي، مؤسس ومالك أحد المتاجر الإلكترونية، فقد بدأت قصته مع بيع الكتب من حبه وشغفه بالقراءة، والذي تحوّل إلى التجارة بسبب قيام أصدقائه باستعارة الكتب بشكل متكرر، وسرعان ما تطوّر المشروع بشكل كبير. “نحن لا نشتري الكتب ونبيعها، لدينا مطبعة خاصة في لبنان، ونوزع مطبوعاتنا في سوريا ولبنان والدول الأوروبية”، يقول العلي، ويبيّن أن سبب استخدامه للتجارة الإلكترونية يعود إلى صعوبة منافسة المكتبات في تأمين العناوين، خصوصاً تلك التي تطبع باللغة العربية، حيث تنتشر “الطباعة التجارية” بشكل كبير جداً في سوريا.
بدوره يرى عامر الأحمد (اسم مستعار) أن افتتاح مكتبة حقيقيّة في سوريا صعب جداً، حيث يعدّ الجانب الأمنيّ الذي رافق العمل في المكتبات في زمن النظام السابق من عمليات تفتيش وبحث عن أسماء كتب محددة أحد أهم العوامل التي حدّت من هذا المجال، بالإضافة إلى الصعوبات الماديّة وعدم استقرار الأسعار.
الأسعار المرتفعة على قائمة التحديات
تراجعت قيمة الليرة السوريّة بشكل كبير خلال السنوات السابقة، وانعكس ذلك على مختلف جوانب الحياة في سوريا، بما في ذلك شراء وبيع الكتب، نظراً لارتفاع الأسعار -المرتبطة بسعر صرف الدولار الأمريكي- وتزايد تكلفة الاستيراد والورق والحبر، بحسب عصام عبود، الذي يوضح أن زيادة الأعباء المادية على بائع الكتب بسبب ارتفاع تكاليف النقل والتوصيل وغيرها من الأمور ستنعكس بطبيعة الحال على أسعار الكتب، ويضيف العبود أن النظام الرأسمالي حوّل الكتاب إلى سلعة ذات قيمة تبادلية وليست معنوية، “من الممكن أن تُباع 3000 نسخة من أحد الكتب التجارية في اليوم الواحد، بينما قد تباع نسخة من ديوان المتنبي أو أحد كتب كافكا أو ألبير كامو، والأغلب ألا تُباع، معتبراً أن لما وصفه بـ”الأدب الزائف” سوق كبير وأرباح وتجارة خاصة يعتاش بعض الناس منها”.
من جهته، يرى العاجي أن أسعار الكتب لم ترتفع على الرغم من سنوات الحرب في سوريا، “سعره رخيص جداً بالنسبة للأسعار خارج سوريا، لكن الدخل المنخفض والتضخم والمتطلبات اليومية عند الناس أثرّت سلباً على بيع وشراء الكتب”.

في حين يؤكد قصي عيسى العلي أن الناس في سوريا يشترون الكتب بنسب متفاوتة، فمنهم من يشتري كتابين كل شهر، ومنهم من يطلب كتب بمليون ليرة سورية، “وفي ناس بتصمّد مصاري لتشتري كتاب كل فترة”، ويردف: “عملية بيع وشراء الكتب تختلف بين سوريا ولبنان بسبب اختلاف دخل المواطن، ففي لبنان تختلف جودة الكتب والكميات المطلوبة من المكتبات، أما في سوريا فقد نلغي مثلاً الحرف النافر بسبب غلاء سعره الذي لا يتناسب مع دخل الناس، باستثناء الطلبات الخاصة”، كما يلفت إلى أن الاعتقاد الشائع بأن انخفاض سعر الصرف قد يؤدي إلى انخفاض أسعار الكتب، بل على العكس تماماً، لأن سعر الحبر يرتفع بشكل كبير.
سوق غارق بالعناوين التجارية
تنتشر في سوريا اليوم العديد من العناوين “الرنانة”، وهي الكتب ذات الانتشار الواسع والتي يعبّر معظم القرّاء عن امتعاضهم الشديد من كثرتها. يقول عبود إن الكتب التجارية انتشرت بشكل كبير في سوريا، لكنه، ولسبب شخصيّ، لا يبيع ما لا يقرأ، ويضيف موضحاً: “لا أرى أنها أثرّت على الأنواع الأخرى، لكل نوع من الأدب جمهوره، لكن المفهوم الخاطئ حول الكتاب وأنه لأوقات الفراغ والتسلية جعل من المراهقين وطلاب الجامعات في المراحل الأولى يكثرون من شراء الكتب بهدف مشاركة الأفكار والقصص مع زملائهم، وهو ما يحدد النوعية بالأشياء السهلة والمتداولة”.
في الإطار ذاته يذكر محسن العاجي (اسم مستعار)، وهو مساهم في إحدى المكتبات القديمة في دمشق، أن هناك طلب كبير على العناوين التجارية في الوقت الحالي داخل سوريا وخارجها، لكنها لا تؤثر على “الكتب الهامّة” لأن الأمر يتعلق بالحالة المادية أكثر من نوعية الكتب، ويتابع: “الكتب التجارية مقدور عليها عند أغلب الناس لهيك صار عليها طلب زيادة”، أما بالنسبة للروايات الهامة أو الكتب النقدية والتاريخية فسعرها مرتفع نسبياً، وهذا الشيء يؤدي إلى انخفاض الطلب.
“لا أعتقد أن للكتب التجارية تأثير كبير على القارئ السوريّ، بالتأكيد الكتب (التريندي) هي الأكثر مبيعاً، لكن نحاول قدر الإمكان الحفاظ على اختيارات مهمة مع مراعاة اختلاف الأذواق”، يقول عامر الأحمد، الذي يعمل على تأمين العناوين المميزة والهامة لزبائن متجره، ويعزو الأحمد كساد الكتب (القليل) إلى الوضع المعيشي الصعب بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى الأحداث السياسية والأمنية والإنسانية المؤسفة التي تعيشها سوريا منذ سنوات، والتي توّجه انتباه مستخدمي الإنترنت نحو أشياء أخرى، وكذلك تؤدي إلى تغيّر المزاج العام والابتعاد عن القراءة، وينوّه إلى أن الحوادث الأمنية في مناطق معيّنة تؤثر على عادات القرّاء/المستهلكين، مثل السويداء وتوّقف طريق الشحن إليها، وأيضاً ما حصل سابقاً في الساحل.
أصليّ أم طباعة إيرانية؟
مع تزايد وتيرة أعمال العنف منذ عام 2011، وفي ظل العقوبات الاقتصاديّة التي فُرضت على سوريا، غرقت سوق الكتب في سوريا بالنسخ المزيّفة، وعلى الرغم من الجانب الإيجابي للأمر المتمثل في تمكين شريحة أوسع من الناس من شراء الكتب بأسعار معقولة، إلا أن هذا الأمر شكّل عائقاً أمام العديد من القرّاء من محبّي اقتناء الكتب. مؤسِّسة أحد متاجر الكتب الإلكترونيّة.
لينا معراوي (اسم مستعار)، ترجع هذا الأمر إلى حصر النسخ الأصليّة حالياً بدور النشر المرخص لها داخل سوريا، مثل دار التنوع الثقافي، ودار ممدوح عدوان، ودار تكوين، ودار نينوى، والتي تقوم بطباعة عناوين جيدة، لكنها ليست من العناوين التجارية التي عليها طلب كبير في الأسواق، ومن جهة أخرى الوضع المعيشيّ لا يساعد الناس على شراء الطبعات الأصلية لأنها أغلى ثمناً من النسخ المقرصنة، أي أن “الوضع في سوريا فرض على الناس إما القراءة المقرصنة أو التوّقف عن القراءة”، بحسب معرواي.
كذلك، يبيّن عصام عبود أن النسخ الأصليّة لا تزال موجودة، لكنها القديمة، “معظم الكتب في السوق تمت طباعتها بعد سحبها من الإنترنت، فبعد عام 2011 توقف وصول الكتب إلى سوريا، بما في ذلك سلسلة المسرح العالمي”.
في هذا الصدد يقول قصي عيسى العلي: “أجزم أنه لا يوجد كتب أصلية في سوريا، يوجد كتب بطباعة إيرانية، التي قد تضاهي بالشكل الطباعة الأصلية، لكنها ليست كذلك”، ويشدد على أن القارئ يجب أن يكون على دراية بأن هذه الكتب طباعة إيرانيّة، وأن سعرها مختلف عن الأصليّ من الكتب، “لكنها ظاهرة موجودة اليوم من خلال استغلال الطباعة الجيدة على أنها الأصلية”.
العناوين تحتاج للحرية أيضاً
من البديهيّ أن تصبح المكتبات قادرة على عرض ونشر الكتب الناقدة أو الساخرة من النظام، فلا يخفى على أحد حظره لكثير من العناوين السياسيّة والدينيّة، وأيضاً كتب معارضيه ومنتقديه، عدا عن عدم الموافقة على طباعة العديد من العناوين، و”أحياناً السبب كان مزاجية الرقابة”، يقول عامر الأحمد، بالإضافة إلى الكتب التي تتوجه بالنقد نحو دول وشخصيات معينة، مثل إيران.
أما عصام عبود فيرى أن ضعف العمل بسبب شحّ المال وعدم قدرة الناس على شراء الكتب هي أحد الأشياء التي تغيّرت بعد سقوط نظام الأسد، كما أصبحت الكتب الممنوعة سابقاً متاحة في الأسواق، وخاصة الكتب الدينية.
“في عهد نظام الأسد كانت الكتب معفية من الجمارك والضرائب سواء أكانت داخلة أم خارجة من سوريا، وكان هذا وفقاً للقانون”، يقول محسن العاجي الذي استفسر عن هذا الأمر خلال الشهر المنصرم، وقيل له من قبل المختصين أن القانون على حاله ولم يتغيّر شيء، لكن عملياً على الحدود يتم التعامل مع الكتب مثل أي بضاعة تجاريّة، عليها ضريبة وجمارك، “والمشكلة الأكبر أن هذا الأمر متغيّر، مرة بتمرق بلا شي ومرة لا”.

أما بخصوص الرقابة والطباعة، يقول العاجي أنه لم يأخذ موافقات جديدة بعد سقوط النظام ليعرف إذا ما تغيّر شيء، بينما يرى قصي أن الوضع لم يتغيّربعد، “لا يزال هناك نوع من الحظر على العناوين والأسماء، فعلى سبيل المثال يمكن أن تتم مصادرة الطلبية كاملة بسبب وجود عناوين ’’رومانس’’ أو ’’دارك رومانس’’ فيها”.
من جانبها ترى معراوي أن الانتشار الكبير للكتب الدينيّة وأدب السجون بعد سقوط الأسد يعود للقاعدة المعروفة: “كل ممنوع مرغوب”، فالناس تريد أن تعرف ما بداخل تلك الكتب التي كانت ممنوعة لفترات طويلة، أما بخصوص حرية النشر فتشير معراوي، بعد تواصلها مع عدد من دور النشر، إلى وجود نوع من الرقابة الشديدة على الكتب الفلسفية التي تسعى دور النشر لترجمتها حديثاً، مؤكدة لشبكة الصحافة الحرة أنه “عند عرض بعض الكتب على وزارة الإعلام قوبلت بالرفض لأنها مخالفة للدين”.
مسؤولية مشتركة لإعادة إحياء المكتبات
يربط عامر الأحمد ازدهار المكتبات والحياة الثقافية في سوريا بتحسّن الوضع الأمنيّ والماديّ، “لا يمكن اعتبار هذا السياق منفصلاً، ولا يجب أن نستغرب من عدم قدرة المواطن الذي يتقاضى مليون ليرة كراتب شهريّ على شراء كتاب واحد أصليّ سعره حوالي 100 ألف ليرة”. لكن هذا لا يعني الانتظار؛ فمن الجيد أن تنشط المبادرات الشبابية الشعبية والمحلية، مثل نشاطات تبادل الكتب التي قد تكون خياراً جيداً، “يقع هذا الأمر على المجتمعات المحليّة والمنظمات والجمعيات الأهليّة العاملة على الأرض”.
أما بالنسبة للجانب الرسميّ، فيحدد الأحمد بعض الخطوات التي قد تساعد في إعادة إحياء المكتبات ودور النشر، مثل نقل مسؤولية الرقابة على الكتب من وزارة الإعلام إلى وزارة الثقافة، وإلغاء كل أنواع القيود والرقابة ما أمكن ذلك، خصوصاً القيود اللي تتبع كلمات فضفاضة، فهذا الشيء سيعطي راحة أكبر للناشرين والباعة على حد سواء، بالإضافة إلى إحياء وتنشيط المراكز الثقافية والمكتبات الوطنية، وتخفيف كل أنواع الضرائب عن الكتب ومستلزمات إدخالها أو طباعتها. كما سلّط الضوء على ضرورة إحياء وإعادة طباعة الأرشيف القديم، معتبراً أن “الأرشيف السوريّ القديم من مطبوعات وزارة الثقافة ممتاز، خصوصاً الأعمال المترجمة، حيث تتوفر كمية عناوين هائلة طبعتها وزارة الثقافة من فترة الستينات وما بعدها، ويمكن إعادة استخدامها الآن”.
كما لا يمكن إغفال أهمية إعادة إحياء الأسواق الشعبية للكتب المستعملة بعد أن تم تدميرها في دمشق مرتين، الأولى عندما دخل النظام السابق ودمره بالتركسات، والمرة الثانية بعد أن تمّ إخلاء المنطقة بحجة إعادة تنظيمها، لكن في الواقع “تُركت بسطات البالة والاكل نسبياً، بس انشالت الكتب”، وفقاً للأحمد، الذي يستذكر كل ما مرّت به البلاد وكيف صمد الناس وحاولوا الحفاظ على الثقافة والفن قدر الإمكان، “بالنهاية المثقفين السوريين صمدوا وعملوا فنونهم حتى بوجه الآلة القمعية الوحشية للنظام، فالأمل قائم ولا مفر منه”.
يؤيّد العاجي ما تقدّم به الأحمد من مقترحات، ويؤكد على ضرورة إلغاء الجمارك على الورق، لكي يصبح سعر الكتاب أرخص من قبيل الدعم للكتاب الخاص، لأن “كتاب الدولة مدعوم، لذلك فإن دعم كتاب دور النشر الخاصة سيسهم في انخفاض سعره”.
أما النهوض بنوعية الكتب والذوق الرائج فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التعب، “اليوم نص الشعب اسأليه مين حنا مينا؟ مين ممدوح عدوان؟ بيصفن ساعة بلا ما يعرف يجاوب”، لهذا تعدّ الندوات الثقافية ضرورة ملّحة، بالإضافة إلى تفعيل المسارح، و”تفعيل دور وزارة الثقافة بطريقة واقعية وحقيقية، بعيدة عن الاستعراض”، ومعرفة حجم المشكلة والورطة، لمحاولة إنقاذ ما تبقى من الثقافة في سوريا.
بدورها ترى لينا معراوي أن العمل على النهوض بالواقع الثقافيّ يجب أن يبدأ من الأسرة، وأن يكون هناك توّجه خاص إلى الأهل لتشجيع أطفالهم على القراءة، أما الدور الحكومي في هذه العملية فيتمثل بالنسبة لمعراوي بعقد ندوات مفتوحة للتوعية بهذا الأمر على نطاق واسع، والاستماع إلى آراء جميع المهتمين واقتراحاتهم، والسعي إلى إقامة معارض للكتب ذات أسعار مدروسة ومناسبة لدخل المواطن السوريّ، “لأن البعض قد يعتبر الكتب من الرفاهيات اليوم”.
