FPN – عبدالله الشعار وعلي حمودي
هل تذكرون الساعة الناطقة؟ 151.
عند الإشارة تكون السّاعة .. بتوقيت الأب|
التمّت أصابعي على القطعة الزّجاجية وتَشبثت بها حتى أحسست زواياها الأربع تدفع بشدّةٍ وتوسّع كفي الملموم،
كانت لامعةً صغيرةً أصغرُ من النّصف ليرة، و مغطاةٌ بالزّجاج من الجانبين ويتوسط الزجاج الملمّع بعناية صورةٌ الآغا خان مبتسماً بحلّةٍ عربيّةٍ في الأولى، والرّداء الآغاخاني الإماميّ في الثّانية، والكثير من الألوان.. معلقةً بخيوطٍ خضراء مجدولةٍ لتصنع طوقاً يُعلّق على الرّقبة، شبّاك صغيرٌ إلى عالمٍ آخر، فعلت المستحيل لأفتح صرعاته الملوّنة وأُدخِل بؤبؤي داخل تلك النّافذة عبثاً.
كانت الألوان بتوقيت الأب غريبة!، وغريبةً عنّا، فقلّما كنا نرى ما ليس حجارة وعجاجاً وزمجرة.
سألني أحد أصدقائي عمّا أحمله، أريته تميمتي وأتبعت مفرطاً بالحماس” هذه صورة المولى! وهو سوف يساعدني في الامتحان!” لم يستغرب قولي، بينما طفل آخر يشاركني نفس المقعد الدراسي أردف “أنا لدي خلعة بيدي تساعدني دائماً في الامتحان، أما السَّائل الأول فقال: “سأحضر سورة الكرسي معي بكرة”.
لم يتردد باقي الأطفال بسؤال المعلّمة من هو هذا المولى ولماذا لا يملكون صوراً له مثلي يساعدهم بالامتحان، ردّت أنه مولاي وحدي وليس مولانا نحن! واكتفت بهذا التّعليق.
أظنّنا وأهالينا مدينين لها تجاهلها حتّى الآن.
دارت الأيّام.. صديقي صاحب الخلعة كَبُر وقُتل، والسَّائل كَبُر وأصبح قائداً لثلاثمائة مقاتل؛ وانتصر، كسّر بيديه أغلال زنازين أمن الدّولة في إدلب منذ تسع سنوات، وأنا كبرت و نُفيت، وأما المُدرِّسة لم تكبر قط، بقيت على ذات الطّاولة تلوك عِلكاً بزاوية الصّف البارد لا تبالي بما نفعل ونقول..
فعلت فعلتي ولم أحسب حساباً لتوصيات عائلتي بعدم إظهار أي ملامح هويّة شخصيّة كانت أم دينيّة؛ من يوم ولادتي وإلى الأبد، حتى لو كان حديثاً عابراً أو عبادات.
لم تكن عباداتنا سريّة ولكن في التّسعينات كان إخراج صورة المولى أو ما يمت به للشّارع من المحرّمات، لاحقاً فهمت أن إخراج أي صورة هو المشكلة بجانب صورة البائد الخالد وليس المعتقد؛ وليس الإمام.
كان للمولى صورة فوق سرير والديّ، أتيت ببركته كما يفترض، ولحافظ الأسد صورة وتمثال وجه نصفيّ مذهّب مصبوب من الكلس الرخيص معلقّ على صدر حائط صالون الاستقبال، كبرت بحفظه ورعايته، وعلقت أمّي في زاويةٍ أخرى بحجم الكفّ صورةً معدنيةً ملوًنةً للعذراء تبكي ابنها المشبوح على الصًليب.. أخفَت أمًي عنًي قصًة هذه الصًورة دائماً، لم ترد إخباري أنها امرأةٌ ولدت دون نطاف و ادّعت أنّ الله وضع طفلها برحمها.. ثم سُحِل الشَّاب الطَّيِّب في فصلٍ آخر عبر شوارع القدس .. استغربت كيف أنَّ القدس مدينة السَّلام! وتلك الشّوارع سُحِل فيها وعُذِّب كل من أظهر نوراً من وجهه أو وجهها منذ بداية التَّأريخ.
لاحقاً استغربت ذات الشّيء عن تدمر
صرخت أمّي!، فقزتُ؛ وكسرتُ الصّورة! المعلّقة فوق صورة جدّايَ، وأخرى لي ولإخوتي. بقيت الصّورة في مكانها, وانتثر زجاجها على الأرض. شهقت أمّي، وحملقت بوجهي مذعورة! فذُعرت بدوري، علماً أنَّ هناك أربعة أخريات معلقاتٍ في باقي الغرف، حتى الآن، مجرد تذكّر الذعر على وجه أمي يجعل قلبي يرتجف!
عند الإشارة تكون السّاعة.. بتوقيت الفارس المُذهّب|
وتتالت الصّور، صورةٌ تلو صورة، حتى مَات باسل! وتغيّر وجه سوريا من جلالة المصاب والخطب .. انكسر الوحش الكبير واستوحش واضطّرب، كاد ينفجر حَنقاً وهو يراقب بشار ينعي أخاه الذي لم يطقه يوماً ببدلةٍ اختيرت له على عجل، فبدا يلوح بداخلها كقصبة تمرجحها الرّياح التي كادت تمزق خطابه الهزيل، يتشبث بأوراقه خطابه، علّه ينجيه من امتحانه القادم.
علّقنا صورة “الشّهيد المغوار”، علّقناها في كل مكان وزمان ولم ندَّخر جهداً في التّعليق.. بالتّزامن مع ظهورٍ خجول لصورة الإمام مع حافظ الأسد ـ في لقاء قديم ليس له أثرـ في بعض المحال التّجارية في سلمية، روت لي جدتي أنّ حافظ استقبله، وأنّه سَمح لبعض أفراد الطّائفة بملاقاته ولكن بتعتيمٍ إعلاميٍّ شديد.
وهكذا فهمت أن البعض احتمى بحافظ.
ولكن حافظ لم يبق له من يحميه في مثواه الأخير.
عند الإشارة تكون السّاعة.. بتوقيت الابن|
صارت جدراننا أصغر، فللإمام صورة، وأنجب ابنه طفلاً اعتقدت الطّائفة أنّه الإمام القادم بسبب نشر صورة وهو يحمل الطّفل المبارك.
والبائد أنجب خمسة أبناءٍ بعضهم بدأ بالإنجاب فعلاً، ومنهم أبطالٌ ومنتصرون وشهداء، وجميعهم دكاترة.. بعض المسامير لم تتحمّل وزن الرّؤوس التي أينعت، ولكن تشبّثت بالفراغ، أدرك والدي أننا بحاجة لبناء منزل آخر لنا، فباع أرضاً وبدأ يصارع على مدى عقد لإنهاء ما بدأه، مع الاستمرار بالتّف على التّمثال الرّخيص بغيه تلميعه بقطعة قماش مخصصة للتفّ أو للتّلميع.
بنهاية العقد حزمنا أمتعتنا، وصورتيّ الإمام، وترك والدي كل آل الأسد معلّقين على جدران المنزل القديم، وتماثيله، وضحك بخبثٍ عندما أبلغ السّاكن الجديد أنّهم هديّةٌ له وأمانةٌ في عنقه.
التحقت بعائلتي عندما انتهت حفلة التّرتيب، عندما وصلت حارتي كان والدي يظهر من شباك المنزل واقفاً على سلّمٍ يدقّ مسماراً .. وأمي تقف منتصرةً وتنتظر أن تناوله صورة الإمام بالحلّة العربيّة، صورةٌ واحدةٌ فقط، ولامزيد من آل الأسد.
تؤمن أمي بالإمام من باب الولاء لعائلتها وجدّتي الأخرى
جدتي التي واظبت على حبه حتى أفجعت بعزيزٍ فجأةً.. فكبتتْ!
وضعت صورة العزيز مكان الصّور القديمة.
بعد سنوات أفضت لي “كنت مزاعلتو!”
جدّتي كانت مؤدّبة في شكّها، ولو كانت لتشرح الزّعل الذي ادّعته لنعتها البعض بحمّالة الحطب.
استيقظت المدينة مفزوعة على فرمان من الإمام يبلغنا فيها برغبته المباشرة بإنزال صوره من على جدران المساجد، لئلا تكون الصّلاة موجهة لإنسان أو صوره فتحسب على المصلين شُركاً.
انتفض البعض ورفض رفضاً قاطعاً التّصديق أو التّنفيذ، وانتشرت قصص للتندّر أن بعض المصلّين تصارعوا بالمسجد لحماية الصّور أو لإنزالها، بعد أن حدث أحياناً جدلٌ وتلاسن فعلاً، ولكن لم يتطور عن هذا.
عام ألفين وثمانية استقبلت سوريا الآغا خان.. الرّجل الذي كان يراه رأس النّظام وعقيلته صرّة من الدّنانير الذّهبيّة، فتحوا له الشّوارع، واستقبلوه بطائرة هيلوكبترعسكريّة رافقته طوال رحلته، وسمحوا بمساحة على الجدران لصوره، وخصّ النّظام بوابة المدينة التي تحمل ثلاث صور لآل الأسد، بمساحة إعلانية يتشاركها بشار الأسد مصافحاً الإمام مع ابتسامة عريضة كالتي أظهرها بملعب حلب البلدي حين كَاد “حنكه” يَفلت ويَسقط من الفرح أمام أردوغان.
تلك الصّورة تحديداً كانت بداية القصّة.
عند الإشارة تكون السّاعة.. بتوقيت الثّورة|
انتشرت في المدينة أخبار تفيد بأن بعض أتباع الطّائفة السنيّة من (آل الد..) الكرام يعتزمون إزالة صور زعيم الطّائفة الواقعة جانب قوس التّرحيب الخاص بالمدينة. كالنّار بالهشيم امتلأت مجموعات التّواصل الاجتماعيّ بالمنشورات التي تدعي النّاس لحماية الصّورة، أصبحت المدينة في حالة استنفار شديد. وبدأ شباب الطّائفة يتوجّهون على درّاجاتهم النّارية إلى القوس – مدخل المدينة من جهة محافظة حماة ـ ، الذي تزيّنه صورة الأب والابن الحاكم، والابن القتيل.
وقيل أنه في قرية تل الدّرة الصّغيرة المجاورة للمدينة، صاح أحدهم عبر المذياع الخاص بالمسجد أو البلديّة، محذّراً من هجوم الآخرين على صورة الإمام. نتيجة لذلك بدأ النّاس يتوجّهون بسيّاراتهم ودرّاجاتهم النّارية الشّخصيّة نحو مدينة سلمية لحماية الصّورة. بقيت المدينة في حالة من القلق والتّوتّر والرّيبة، حيث تجمّع النّاس من مختلف الأطياف الاجتماعيّة والثّقافيّة دفاعاً عن رمزٍ دينيٍّ طالما اعتُبر جزءاً من هويّتهم الجماعيّة، ولابد من ضرورة ذكر أن هناك بعض من توجّه لموقع الحدث من مختلف الطّوائف بنيّةٍ طيّبةٍ وإن كانت غير مدروسةٍ وبسياقٍ تشبيحيّ.
كما أرسلت العديد من القرى الإسماعيلية المجاورة شبابها إلى سلمية، في محاولة لحماية الصّورة من الهجوم المزعوم من أتباع الطّائفة السنيّة. هكذا كانت الأحداث وهكذا تمّ تفسيرها في خطوطها العريضة. إلا أن الأمر في النّهاية كان خبراً وهميّاً كاذباً كيديّاً، أُعدّ ونُشر من قبل شعبة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ برعاية المجرم المدعو مازن القشّاش، والأجهزة الأمنيّة التّابعة للنّظام البائد بغطاءٍ أمنيٍّ من آل سلامة المدعومين من القتيل أديب سلامة رئيس فرع المخابرات الجويّة في حلب. هذه الحيلة كانت تهدف إلى إشعال الفتنة وزرع الفوضى بين أبناء المدينة التي كما اعتادت في الماضي، استوعبت الموقف بشكل جماعيّ و تجنّبته، محافِظة على استقرارها الاجتماعيّ والأهلي.
ذات العائلة لاحقاً بعد عدّة سنواتٍ اقتحم أفرادها المدينة بسيّاراتهم وأسلحتهم، وفي استعراض تشبيحيٍّ رخيص قاموا بشتم الأهالي والنّازحين من باقي مناطق سوريا والهتاف “علويّة علويّة بدنا ندوسك سَلميّة”، سلميّة التي احتوت ـ وإن كنّا مرغمين على استخدام هذه اللغة المباشرة ـ علوييّن معارضين لنظام الأسد أكثر من مؤيّديه، كما يظهر إصرار النّظام وعصاباته على جر المدينة إلى التّناحر الدّينيّ ولو كان على حساب دم أبناء “طائفته” الذين من المفترض أن يُذبحوا في بيوتهم على أيدينا نحن السّلامنة الغاضبين من شعارات آل سلامة والمخابرات الجويّة، مما يؤكّد أن هدف النّظام لم يكن السّنّة أو الصّورة أو حماية العلوييّن أكثر ما هو الرّغبة بمشاهدة حمّام دم.
أمّا نحن العارفين بخفايا الحدث وأسبابه كاملةً، بدأنا التّجمع عند قبّة تامر وفي حيّ الجورة وعند الدّوار باتجاه شارع حماة، توجهنا على شكل مجموعات إلى مدخل المدينة، مكان الحدث والصّورة. وقفنا على بعد كيلومتر من التّجمع البشريّ الغاضب، في حين لم يتوقّف توافد السّيارات والدّرّاجات النّاريّة ومئات الشّباب الذين يحملون العصيّ، وبعض الأسلحة الخفيفة المخفيّة تحت الملابس، استطعنا سماع غضبهم ورؤيته، واستراتجيّاتهم في الدّفاع عن الصّورة، وعشرات التّفسيرات المؤامراتيّة المختلفة، وتواتر أخبار عن مجموعاتٍ قادمةٍ من قرًى أخرى، لحماية ما يُمثِّل الهويّة والمعتقد لمن يسافر عشرات الكيلومترات قاصداً حمايتها..
حينئذٍ كان المجلس الإسماعيلي الأعلى منقسماً على نفسه، وأشيع عن ورود فرماناتٍ من الإمام كأجوبة وتوجيهات تطلب بشكل مباشر عدم التّدخل كطائفة في الأحداث الجاريّة، حتى لو مُزِّقت كل صوره في المدينة، بالوقت الذي قمنا بإرسال عدّة رسائل إلى قيادة الطّائفة الدينيّة والإداريّة، تضمّنت تحذيراتٍ لمن يريد منهم إيقاف التّظاهر ضدّ النّظام.
مع دخول ساعات اللّيل بدأت الأعداد تقلّ بشكلٍ تدريجيّ، وعاد أبناء القرى إلى قراهم، و تبدل التّجمع السّابق بأبناء الثّورة مع مجموعة الشّباب المتهمين برغبتهم بالتّخريب، تغيّرت الأحاديث بشكلٍ جذريّ، حيث كان الهدف هو التّوافق على كيفية منع النّظام من إشعال الفتنة الطّائفيّة، والتّأكيد على ضرورة الحذر من محاولاتهم في هذا السياق، باعتبار أن ذلك قد يؤدّي إلى مقتل الحراك الشّعبيّ.
تضاحك الشّبان السّنّة المتّهمين بجريمة الصّورة، والتي على حد قولهم، تقع بشكل مباشر بعد عشرات الأمتار من محالهم التّجارية، موضّحين أنه إذا كانت هناك أي نيّة قديمة أو حديثة لإحراق الصّورة أو إزالتها أو رشّها أو تلويثها، لما انتظروا عقداً من الزّمن، وإن فعلوا لن يشعر أحد بنيّتهم. كما اعتبروا أن الإشاعة مجرد كلام تافه، لأنهم في النهاية لا يتجاوزون المئات في المدينة من جيران وأصدقاء وغيرهم يعيشون كما تعيش المدينة فرحها وحزنها.
ضحكات من هنا وهناك، مجموعات قرّرت أن تذهب لتستريح بعد هذه اللّحظات من التّعب، وأخرى قرّرت العودة إلى منازلها لأطفالها وأهاليها. أما نحن كما العادة تابعنا جولاتنا اللّيليّة في مراقبة المدينة وكل حدث غير طبيعيّ، وبعضنا استمرّ في عمله بالبخ على الجدران أو تمزيق صور البائد أو القائم بالأعمال – أي الابن.
في اليوم التّالي تزايدت الأخبار عن الحدث من كلا الطرفين، نحن الثّورة ومؤيدو النّظام، كلٌّ منّا يروي القصّة بطريقته الخاصّة. سمعنا أن هناك نيّة من المجلس الأعلى الإسماعيليّ بالصّلاة في جامع السّوق التّابع للطّائفة السّنيّة، كرد اعتبارٍ على أي إشاعة عن نية إشعال أي تحرّكات ذات بعد طائفيّ في المدينة. وفعلاً حدثت الزّيارة، حيث ذهب العديد من وجهاء الطّائفة الإسماعيليّة للصّلاة مع أهل السّنّة في جامعهم، وكنا مع المئات الآخرين نقف على باب الجامع شباباً من كل المدينة ننتظر خروج الوفود المصليّة لنرى فعلاً كيف جرى الأمر. واعتقد ردت الزّيارة إلى مساجد الاسماعيلييّن أيضاً.
كانت سلمية ببساطتها تتجاوز تلك الكبائر بالأحضان، وإن كل الفضل يعود للبائد الأب الذي سحقنا جميعاً بذات الرّحى، فقربنا من إنسانيّتنا كسورييّن أولاً، أدرك ملحدوا المدينة قبل شيوخ طوائفها ضرورة قيام تلك الصّلاة تحت سقفٍ واحدٍ أينما اتُّفق..
وإن كان حدثاً يبدو درامياً إلى حد ما، ولكن يبقى حقيقة حدثت ونقلها للتّاريخ العقيد عناد العباس المنشق عن النّظام، والذي تولى قيادة منطقة سلمية قبيل انشقاقه، وشهد الكثير من الأحداث التي نقلها لاحقاً بعدة مناسبات منها خروج المصلّين من الجامع الكبير يدا بيد ..
عند الإشارة تكون السّاعة.. بتوقيت الآن|
في كل المرات التي اقتربت المدينة فيها من الفتنة، كانت الصّور تظهر كأنها شاهدةٌ على الحدث، أو ربما كأدواتٍ في صناعته.
قامت دوريّةٌ أمنيّةٌ تابعةٌ للإدارة الجديدة في مدينة سلميّة بمداهمة منزلين لشخصين يُشاع أنهما كانا يعملان سابقاً مع اللجان والشّبّيحة. وخلال التّفتيش بحثت الدّوريّة عن أسلحةٍ، وأخذت مبلغا من المال كما ادعى أصحاب البيت، وأُسقِطت – أو سَقَطَت – صورة الإمام، زعيم الطائفة الإسماعيلية على الأرض. فيما تَناقل الأهالي فيديوهات الحدث على مستوى المدينة وخارجها، وفيما تَنتشر الروايات، انقسمت الآراء حَول الحادثة. البعض قال إن عَناصر الدورية هم من أَسقَطوا الصورة عَمداً, بَينما يَدعي آخرون أن صاحب المنزل نفسه هو من فَعل ذلك، في محاولة لتحويل القضيّة من سياقها الجنائيّ إلى قَضية دينيّةٍ تَتعلق بإهانة المعتقدات، أمّا في المنزل الثّاني، العائد لمجرمٍ مشتبهٌ أيضاً بارتكابه جرائم حرب والذي كان سبباً في فتنة الصّورة الأولى بداية الثّورة والوارد ذكر أحداثها أعلاه.
وَهكذا، بَدلاً من التّركيز على من أساء للنّاس في زمن الغابة، يتمّ جرّ الواقعة إلى مواجهةٍ حَول الرّموز والقيم. وهَذا ما لم ينجح أحدٌ في تَحقيقه حتّى الآن.
في كلتا الحالتين، لم يعتبر الكثير من الأهالي أن إسقَاط الصّور على الأرض يُمثل انتهاك من قبل المجموعات التي دَاهمت المنازل، معظمهم لا يعرف شكل الإمام أصلاً، ولم يَنجح مُثيرو الأخبار في إخراج الأمور عن سِياقها. بل تَم التّركيز في مناسباتٍ عدّة، على انتهاكات الهيئة بشكل مباشر وتقصيرهم بملاحقة المجرمين أو حتى لومهم على التّجاوزات التي تُمثِّل انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، كما جرى مع المواطن من آل الحـ.. عندما تم اعتقاله وتعذيبه، والمواطن من آل د.. أيضاً بقضايا كيديّة، لاحقاً تدخّلت مجموعةٌ تضمّ قائد الشّرطة ومسؤول العلاقات الأمنيّة لإصلاح الموقف. وكما أُشيع تم القبض على الشّخص الذي قام بتعذيبهما وممارسة هذا الانتهاك وتمت إحالته إلى الجهات المختصّة لتطبيق “العدالة بحقه”.
أبناء سلمية الذين رفضوا بدافع وحذرٍ شخصيٍّ على مدى عقود تحويل الصّورة؛ أيّ صورة، سليمةً ومعلقةً، أو مكسورةً بأشكالٍ مختلفةٍ، والنّوايا الكامنة وراء ذلك، إلى سببٍ إضافيٍّ لعذاباتِ من لا قدرة له على حمل المزيد، أو شرارة لفتنة، أو سبباً للابتزاز، أو خلطاً وتلميعاً لصور الغير، فالحقيقة الأعمق أنّها ليست مدينة تَحكمها الصّور أو الشّعارات، بل وعيهم بأن نسيجها الاجتماعيّ الذي يرزح تحت ثقل الانتماءات المختلفة أثمن من أي خلاف.
..
