دلير يوسف
صورتان استوقفتاني وأنا أتابع احتفالات نوروز في سوريا، فبعد أن كان العيد حكراً على الأكراد، يحتفلون به أحياناً سرّاً، وأحياناً علانية، ويُقتل منهم أشخاص حين تفتح قوات الأمن النار عشوائياً، مثلما حدث عام 2008، بدا العيد هذه السنة -وبعد سقوط نظام الأسد- عيداً سورياً وطنياً جامعاً.
انتشرت صور ومقاطع فيديو من مناطق مختلفة من سوريا، من السويداء وسلمية واللاذقية ودمشق وحلب. احتفل الكثير من عرب سوريا مع أكرادها في مشهد نادر. لكن بعض الصور برزت بشكل لافت، وتكاد تكون قادمة من عالم سوريالي رسمه رسّام ما في ثلاثينيات القرن الماضي. أذكر هنا هذان المشهدان دون تحليلها، لكن فقط لإبرازهما والتذكير بأنّ كلّ شيء ممكن في هذه الحياة.
الصورة الأولى هي احتفالات الناس في ساحة شمدين، في حي ركن الدين الدمشقي. لأنّني ولدتُ وترعرت في هذا الحيّ كانت الصور عاطفيّة بالنسبة إلي، ولأنّه في المرات القليلة التي احتفلنا فيها في دمشق، كان علينا الذهاب إلى حي تشرين أو إلى بساتين الغوطة للاحتفال. هذه المرة كان الاحتفال في الحيّ، مئات الأكراد والعرب يحتفلون ويرقصون سويّة في حيّهم. يغنون الأغنيات الكردية بصوت عالي ويرفعون الأعلام الكردية والشعارات المكتوبة بالكردية دون خوف.
أكثر ما أثار انتباهي هو مقطع فيديو صغير يظهر فيه مسلّحون من الأمن العام، يرقصون ويتمايلون على أغنية لجوان حاجو، أشهر مغني كردي والمنحدر من ريف القامشلي. يظهر الجنود وهم يضحكون ويتظاهرون بالعزف على آلات موسيقيّة، وهذه الآلات الموسيقية هي أسلحتهم.
من كان يظن أن جنوداً عرباً سوريين يرقصون على أغنيات جوان حاجو. جوان حاجو الذي مُنع من الغناء في سوريا مذ خرج منها في ثمانينات القرن الماضي. جوان حاجو الذي غنى وعزف في كلّ بلاد العالم، والذي حضر حفلته في مدينة آمد الكردية في جنوب تركيا حوالي مليون شخص في بدايات الألفية، يصدح صوته عالياً في دمشق ويتراقص على أنغامه جنودٌ عربٌ سوريون.
من كان يصدّق بأنّ هذا قابل للحدوث؟!
المشهد الثاني هو مشهد غناء سميح شقير في القامشلي. المشهد هذا وعلى عظمته مشهدٌ عبثي.
سميح شقير من أعظم المغنيين الثوريين السوريين، ويكفي أنّه صاحب أغنية يا حيف، لكن نضال شقير لا يقتصر على الثورة السوريّة، فقد غنى سابقًا للسجناء السياسيين (هي يا سجاني، غرفة صغيرة) وللثورات (مظاهرات تملى الشوارع والحارات) ولفلسطين ولليسار اللبناني وغيره من أغنيات رددتها الحناجر على مدار عقود، وحتى أنّه غنى للأكراد سابقاً (لي صديق من كوردستان اسمه شفان) -وفي الرد عليه غنى المغني الكردي شفان برور أغنية لدعم الثورة السورية في العام ٢٠١١-.
إذن، لا يحتاج سميح شقير إلى “شهادة حسن سلوك” مني أو من أي أحد آخر، تاريخه النضالي أنصع من أن تلطخه بعض كلمات هنا وهناك.
في الصور ومقاطع الفيديو التي شاهدناها على وسائل التواصل الاجتماعي، يغني سميح شقير لجمهورٍ يبدو أنّه جمهور أوجلان، يرفعون صور آبو وتهتف إحداهن أثناء غنائه “لي صديق من كوردستان”: بجي سروك آبو (يحيا القائد آبو أو أوجلان).
يبدو المشهد عبثياً ورايات PYD و PKK مرفوعة حوله وصور شهداء حزب العمال الذين ماتوا خلال قتالهم قوات الفاشية التركية قبل سنوات طويلة تظهر خلفه، لا شهداء الحزب أثناء قتالهم قوات داعش وتحريرهم للأراضي السورية من الطغيان أو خلال قتالهم القوات التركية ومرتزقتهم الذين احتلوا أراضٍ سوريّة خلال العقد الماضي.
ربّما كان المشهد الذي رأيناه ناقصاً عمّا حدث على أرض الواقع، لكن هذا ما وصلنا، وما وصلنا كان سوريالياً.



يا دلير،
كلّ ما وصفته لا يشبه احتفالًا، بل يشبه النهوض من نومٍ جماعيٍّ طويل، كأننا كنا نحلم في سريرٍ واحد تتدلّى من فوقه صور حافظ وبشار وصلاح الدين وأمهات الجنود والمستعربين وبلاغات الجيش العقائدي، فاستيقظنا ذات نوروزٍ ووجدنا أنفسنا نرقص مع من كنا نخاف أن نحبّهم، أو نخجل أن نعترف بجميلهم، أو نتلعثم بأسمائهم في الساحات المزوّرة؛ نوروز هذا العام ليس زهرًا فقط، بل اعتراف متأخّر على لسان بلدٍ يتعلّم للمرة الأولى كيف يعتذر. الجنود الذين يرقصون على صوت جوان حاجو لا يعرفون أنهم يرقصون على عظام سنواتٍ من المنع، لا يعرفون أنهم يعزفون بأصابعهم على أسلحتهم لا موسيقى كردية بل لحنًا كان يُعذَّب في أقبية المخابرات حين كان يُهمَس بالكردية بين طفلين. هل هذه مصالحة؟ لا أدري. لكنّها لحظة سقوط خفيف في قلب الوحش، لحظة نادرة تسقط فيها هوية القامع من على كتفيه فيكتشف كتفاه أنهما من لحمٍ مثلنا.
وسميح؟ سميح، صديقنا في الخسارات الجماعية، نبيّنا الذي لم يُعلن نبوّته، لم يكن يغني في تلك اللحظة أمام صورة آبو… بل كان يغني خلفَ صورنا القديمة نحن، حين كنا نكره كرديًا لأنّنا عُرّبنا قبل أن نُعْرَف. الأغاني نفسها، يا دلير، لا تعرف السياسة، كما لا تعرف الزنزانةُ الفرق بين كرديٍّ وعربيٍّ حين يُجلَد الاثنان بنفس السياط.
وحين قالوا: “بجي سروك آبو”، ما كانوا يحيّون صورة، بل كانوا ينتقمون من نظامٍ طمس أسماء موتاهم، ومن ثورةٍ لم تكتب أسماء شهدائهم، ومن أصدقاءٍ نسوا أن القتال ضد الفاشية التركية لا يقل طهارةً عن القتال ضد داعش أو عن معارضة بشار نفسه.
هذا المشهد، كما قلت، سوريالي؟
ربما.
لكنني أراه مشهدًا كُتب منذ قرون على لوحٍ من الغيم،
ومُسح بالدم،
ثم أُعيد كتابته اليوم…
بالعَرَق.
برجفة اللغة.
وباعتراف بلدٍ كاملٍ أن جسده ما عاد طاهرًا من النسيان.
محبتي ومودتي