سما المحمد
نشرت وزارة السياحة مؤخراً مجموعة من التعليمات تخص موسم الصيف ولباس السباحة وإجراءات السلامة في المسابح. تضمّن القرار شروطاً للالتزام بالآداب العامة ومراعاة الذوق العام وخدش الحياء، وجاء فيه إلزام النساء باللباس المحتشم “البوركيني” على الشواطئ وفي المسابح العامة، أو ارتداء ملابس سباحة تغطي الجسم، وعدم التنقل دون لباس يغطي الجسد، كما طالب القرار الرجال أيضاً بتغطية أجسادهم أثناء التنقل بين المرافق، فيما سمح القرار لمرتادي المنتجعات والشواطئ والأندية الخاصة بلباس السباحة المعتاد أو “ملابس السباحة الغربية العادية”.
أثارت هذه القرارات موجة من الانتقادات، إذ اعتبره البعض محاولة جديدة من السلطة الحالية لتقييد الحريات العامة، ففي وقت تحاول فيه الحكومة الانتقالية تصدير صورة مثالية عن نفسها للخارج، تصدر داخلياً مجموعة من القرارات التي تنافي الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والتي يعتبر حق اللباس جزءاً أساسياً منها في إطار حرية التعبير والاعتقاد، معتبرين أن قراراَ كهذا يشكّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان خاصة في مجتمع متنوّع مثل المجتمع السوري.
اقتصاد الأجساد
القرار تضمن بنداً يسمح لمرتادي الفنادق ذات التصنيف العالي بارتداء اللباس الذي يناسبهم، وهو ما اعتبره البعض عودة إلى الفرّوق الطبقية في المجتمع السوري والتمييز القائم على هذا الأساس، حيث أصبحت حرية اللباس مرتبطة بشكل أساسي بالقدرة المعيشية والطبقة الاجتماعية.
هذا البند جعل القرار أكثر تعقيداً، إذ لم يعد الأمر مرتبطاً بحرية النساء وقدرتهن على ارتداء ما يناسبهن ،خاصة أن الإلزام بالاحتشام بالملبس فُرض على الرجال أيضاّ، بل أصبح يطرح مشكلة مختلفة تتمثّل بالحالة الاقتصادية وتأثيرها على النساء والرجال على حد سواء، وارتباط الحريات الشخصية بذلك.
يبدو أن السلطة الحالية تعيد بهذا القرار تعريف الجسد، وهذه المرة اختلفت المقاربة لذلك، فالتمييز لم يعد على أساس الجنس فقط، فالمحرّك هنا للأجساد وحريتها وقدرتها على ممارسة وجودها في الفضاء العام مرتبط بشكل أساسي برأس المال الذي يملكه صاحب الجسد، وبرزت أسئلة كثيرة تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي، فهل نحن أمام نوع جديد من التمييز؟ وكيف يمكننا فهم هذا التناقض بين ما اعتبره القرار مراعاةً للتقاليد والآداب العامة، مع استثناء من يملكون المال الكافي ليخرجوا عن هذه العادات؟
كما يحيلنا هذا القرار إلى مجموعة من الأسئلة الأخرى: من هم هؤلاء الذين بإمكانهم الدخول إلى المنتجعات والفنادق الفارهة، وهل ينتمون إلى طائفة معينة؟ بالتأكيد لا يمكننا الجزم بذلك، إذاً فالقرار الذي استند على مبادئ “المجتمع المحافظ” والذي يغفل التنوع الكبير في المجتمع السوري وعادات مكوناته المختلفة يضعنا أمام سوء فهم حقيقي من قبل هذه الحكومة للتقاليد التي تحكم المجتمع السوري وتأثيرها على الحياة اليومية، ويجعلها تأخذ قيمتها من الحالة الاقتصادية للأفراد ومقدرتهم على الخروج عنها والعيش بحرية.
هكذا قامت السلطة بشكل مبطن بتقسيم الفضاء العام بما يناسب رؤيتها وبرزت “الطبقة” كسلطة على الجسد ووجوده في هذا الفضاء، فالحرية هنا متاحة لمن يستطيع شراءها، وهذا يجعلنا أمام مشكلة جوهرية في تفكير السلطة و فهمها للحرية وللجسد على حد سواء، فإخضاع أجساد أصحاب الدخل المحدود لشروط محددة يجعلنا أمام نوع جديد من التمييز ينفي القيمة الجوهرية للإنسان ويختصره بعدد الأوراق النقدية التي بحوزته، لتتمايز المعايير الأخلاقية والاجتماعية بين فضاء عام يرتاده أشخاص محدودي الدخل وبين فضاء خاص تصنعه وتحميه الأموال.
الجسد كرمز سياسي
فرض الهيمنة بالاختباء خلف الأخلاق هو نوع من الخوف من حرية الجسد وما يشكله ذلك من وعي الأفراد بذواتهم وبعلاقات القوة التي تتحكم بهم، فعندما يتاح للأفراد امتلاك أجسادهم والحرية بشأن ذلك من لباس وحركة وطبيعة العلاقة مع الآخر يصبحون أكثر حرية وبالتالي تصبح عملية إخضاعهم أكثر صعوبة.
السلطة تخاف حرية الجسد لأن ذلك يعني قوة صاحبه واستقلاله، فهو لا ينصاع للأوامر، ويمتلك فهماً كافياً لذاته ورغباته، وبالتالي فهماً للسلطات التي تتحكم به، وهو ما لا ترغب السلطة السياسية في حدوثه، إذ كلما ما زاد الشرخ بين الإنسان وذاته وجهله برغباته وحريته الشخصية أصبح أكثر طاعة لها، لأن الذات المشوشة التي تختصر وجودها بمعايير ومبادئ خارجة عن فهمها ومفروضة عليها يسهل تسييرها ووضعها في المكان الذي ترغب فيه السلطة.
عبر التاريخ اعتمدت السلطات قمع الأجساد كأداة سهلة للسيطرة، إذ يمكنها صناعة جسد مطيع منضبط وخائف لا يمكنه مواجهتها أو تهديد وجودها مستخدمة خطاباً دينياً أو أخلاقياً لهذا الغرض، وهذا القمع يبدأ من التحكم باللباس والحركة والفعل الجسدي، وسرعان ما يتحوّل إلى عملية تعذيب ممنهجة لذات الجسد في حال قرّر التمرّد على هذه السلطة وسعى للحصول على حريته.
أبعاد ثقافية واجتماعية
اعتبر كثيرٌ من السوريين أن مصطلح “الذوق العام” مصطلح فضفاض ويراعي ذوق فئة محددة على حساب فئات مجتمعية أخرى، ويبدو القرار وكأنه فرضٌ لهذا الذوق على المجتمع بأكمله، ومحاولة لتحويل الثقافة العامة في المجتمع بما يناسب رؤية الحكومة وحدها مع التجاهل التام للحرية الخاصة بالأفراد، وضرورة وضع قانون يشمل الجميع، فيما يحد من ناحية ثانية من الحرية الذاتية خاصة للمواطنين غير المقتدرين مادياً، مع محاولة مبطنة لتقسيم مساحات الفضاء العام بين المواطنين والسياح في محاولة للاستثمار وتشجيع السياحة من جهة مع تقييد وفرض نمط حياة محلي خاص من جهة ثانية.
بالإضافة لذلك يكرس القرار ثقافة الوصاية على الجسد واللباس، وطرح الحكومة لنفسها كوصي مباشر على المواطنين، في الوقت الذي تتجاهل فيه الخدمات الأكثر إلحاحاً والتي تتطلب حلاً سريعاً، وإنجاز خطوات حقيقية لتأمينها للمواطنين لتنشغل بفرض مجموعة جديدة من القيود على الحريات العامة.
ومع اختلاف الجدل الأخلاقي والقانوني حول القرار وتبعاته إلا أن ما يبدو واضحاً هو محاولة الحكومة “تديين” الفضاء العام، مع استثناءات طبقية تشمل النخب، وهذا يجعلنا أكثر فهماً للحكومة وأسلوب عملها وفهمها للحريات والتعددية الموجودة في سوريا، وفيما لم يوضح القرار الأحكام أو العقوبات المترتبة على مخالفة التعليمات الجديدة، يبقى رد الفعل من قبل المجتمع والالتزام بها أو الخروج عنها مقياساً لما سيكون عليه مستقبل الحريات في سوريا الجديدة.

1 أفكار حول “رأس المال وحرية الجسد”