إبراهيم زرقه
في الجرّة المكسورةِ
انتحبتْ نساءُ الساحل السوريّ
من طول المسافةِ، واحترقْنَ بشمس آبَ.
رأيتُهنَّ على طريق النبع قبل ولادتي.
وسمعتُ صَوْتَ الماء في الفخّار يبكيهنّ:
عُدْنَ إلى السحابة يرجعِ الزَمَنُ الرغيدُ
تظل هذه الكلمات من قصيدة “جدارية” تنبض في كل لحظة أعيشها أو أتخيل فيها واقع نساء الساحل. هي ليست مجرد صورة، بل انعكاس لقصص نساء تُركن ليواجهن حرباً لا تعترف بحياتهن كأفراد، بل كرموز للفقد المستمر والمقاومة الصامتة. وسط عالم تسيطر عليه الذكورية، تصبح قصص النساء مرآة لنظام اجتماعي لا يرى فيهن سوى ظل للرجال. اليوم، يتكرر البكاء على طول المسافة، ليس بين النبع والبيت فحسب، بل بين الحاضر والماضي الذي يختبئ تحت سطوة تلك الذكورية التي ما زالت تملي شروطها على مصائر النساء.
في قلب الساحل السوري، وبينما تتشابك أصوات الريح مع صرخات النساء، تبدو الذكورية كحاضر دائم لا يغيب. عندما كان الموت يبتلع من حولهن، تُركت النساء وحدهن في مواجهة المصير الغامض. كم هو مرير أن تتحول المرأة إلى وقود لهذه الحرب التي لا تنطفئ، بلا صوتٍ يُسمع إلا صراخاً يتناثر في الهواء، وكأن وجودها يُختزل في المعاناة فقط.
في قرية المختارية، جلست امرأة ترتدي ثياباً رثّة على قارعة الطريق، تبكي وتنتحب بعد أن فقدت زوجها وابنيها. كانت قد وعدت ابنها الأكبر بأنه لن يموت وأصرت على تسجيله في الجامعة ودفع رسوم التسجيل، رغم خوفه الشديد من الموت القادم من ابن البلد نفسه. كلماتها التي كانت يوماً مصدر طمأنينة أصبحت اليوم عبئاً ثقيلاً على قلبها، حين عاد الموت ليقتلع كل من أحبّت دون أن يُبقي لهم أثراً سوى في ذاكرة حزينة.
عندما دخل المسلحون إلى القرية، أعادت وعدها لأبنائها بأنهم لن يموتوا إذا التزموا منازلهم. لكن الموت لم يلتزم بأي وعد. ولم يتوقف الألم عند هذا الحد، فقد سُرق هاتفها الذي كان يحتوي على الصور الوحيدة لأحبائها وحُرق منزلها، وأصبحت بلا أي أثر مادي لتشم فيه رائحة الذكريات. بين نحيبها المتواصل، كانت تردد بحسرة: “كيف سأرى وجوههم؟ كيف سأتذكر ملامحهم؟ لا صورة لأحبتي، ولا قميص أشم فيه رائحتهم.”
كلماتها تحمل ألماُ يعكس واقع النساء في مجتمع يعصف به الموت والذكورية، حيث تجد المرأة نفسها تحمل عبء الماضي والحاضر، دون أمل واضح للمستقبل.
في القرية نفسها، حيث تبدو الحياة وكأنها معلقة بخيط رفيع، تروي امرأة حكاية تُشبه آلاف القصص الأخرى، لكنها تحمل في طياتها ألماُ يفيض من كلماتها. لديها ولدان، ذكر وأنثى، أما زوجها فقد رحل منذ زمن، تاركاً إياها تتولى تربية الطفلين بمفردها. منعت ابنها الوحيد من الانضمام إلى أي تشكيل عسكري أو مسلح، إذ رأت فيه الأمل الوحيد ليعيش حياة بعيدة عن القتل والدمار. لكن الأقدار لم تُمهله، فقتل ابنها رغم كل محاولاتها لحمايته.
تقول الأم، وهي تُظهر صورة لابنها على هاتف قديم الشاشة فيه مكسورة: “كان شاباً جميلاً بعينين زرقاوين واسعتين وشعر أشقر، وكأنه نور يُضيء حياتي. كنت أجهّز منزله ليبدأ حياته، اشتريت له سيراميكاً للمطبخ وكان قريباً من الزواج، لكنهم أخذوه مني.” وبينما تُحاول الابتسام لاستعادة صورة جميلة عنه، تفيض دموعها بلا توقّف.
وسط هذا الألم الذي تحمله، ترى الأم أن نضالها لحماية ابنها كان أيضاً مقاومة لنظام اجتماعي يضع الأعباء الكبرى على عاتق النساء. في غياب زوجها، وجدت نفسها مضطرة لأن تحمل دورين: دور الأم الراعية ودور الأب الحامي، في مواجهة مجتمع ذكوري يتوقّع منها أن تتحمّل بصمت كل هذه الأدوار دون شكوى. وعندما فقدت ابنها، تلمّست جسده بأصابع مرتجفة لتتأكد أنه لم يُذبح ولم يُعذب قبل أن يموت، وكأنها تبحث عن طمأنينة وسط الألم الذي يعتصر قلبها. رغم كل شيء، تقول الأم إن رائحة جسده كانت كرائحة المسك، وكأنها ترى في ذلك علامة على طهارته وبراءته التي لم تُدنّس رغم قسوة الموت.
في منظر يعكس العجز يجتمع أهل القرية لاستلام مساعدات لا تكفي لسد رمقهم، لتُسرق لاحقاً من قبل مجهولين يدخلون القرية في الليل. في القرية لم يتبقَ شيء، لا جرة غاز ولا ملابس أو أي شيء يجعل المنازل صالحة للسكن. وبعيداً عن هذا التجمع، تقف سيدة ترتدي فستاناً وسترة، وتضع غطاء رأس. تقف صامتة، وعيناها تتحدثان دون أن تنطق شفتاها بكلمة. وعندما سُئلت عما حدث، قالت بكلمة واحدة: “لم يبق لي أحد سوى ولد واحد. النظام السابق أخذ ابنيَّ للخدمة الإلزامية، وسلموني إياهما جثثاً. بقي لي ابنان، أحدهما كان سيصبح طبيباً ويختص في مجال الجراحة العامة، لكنهم قتلوه قبل أن يقدم امتحان التخرج النهائي.” لا تقول السيدة كلمات أخرى، فقط عيون دامعة ووجه تحمل تجاعيده آثار الظلم الذي تعرضت له في عهد النظام السابق. اليوم، تخسر روحها مجدداً، فكيف تستطيع هذه الأم نسيان القتل وإكمال حياتها؟ لم يتبقَ لها في هذه الحياة سوى طفل واحد يعاني من مشاكل صحية.
لكن قصة هذه المرأة ليست الوحيدة في هذه القرية. فهناك العديد من النسوة اللواتي يعشن الخوف والشعور بالذنب بسبب طمأنة فلذات أكبادهن أن الموت لن يطالهم. ولكن الخذلان الذي تعرضن له جعل هؤلاء الأمهات يشعرن بالمرارة. وكما دوماً تتجلى صورة النساء كضحايا دائمات، محاصرات تحت ظل سطوة ذكورية لا تعرف سوى السلاح والموت، تغذيها رغبة متعطشة للدمار بدلاً من الحب. كما قال عتيق رحيمي: “أولئك الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحب، يصنعون الحرب.” هذه الكلمات تبدو وكأنها تصف واقعنا الحالي، حيث يُسحق الحب في زحمة الحرب، وتترك الأمهات ليواجهْن فقداً بلا نهاية وخوفاً لا يتوقف.
لن أستخدم اسماً وهمياً ولا حقيقياً لهذه المرأة أو غيرها من النساء، حفاظاً على حياتهن، لكن قصة هذه المرأة ليست الوحيدة في هذه القرية، فهناك العديد من النسوة اللواتي يعشن الخوف والشعور بالذنب. لكن الخذلان الذي تعرضن له غرس في قلوبهن مرارة لا تهدأ. معاناة هؤلاء النساء ليست جديدة، فهي امتداد لفصول من الألم والخسارة التي بدأت منذ عام 2011، واستمرت بلا توقف، لتصبح جزءاً من واقع حياتهن اليومي، حيث تغذي السطوة المتعطشة للسلطة والقوة كل زاوية من حياة هؤلاء النسوة.
وسط هذا المشهد المؤلم، تظهر طفلة صغيرة بعيون مليئة بالإصرار، وعلى يديها طلاء أظافر قديم، يكاد يخفي قسوة الواقع الذي تعيشه. تقول الطفلة إن ألوانها المفضلة هي الأحمر والزهري، تعبيراً عن حبها للحياة رغم كل ما فقدته. والدها، الذي كان معلماً في المدرسة، لم يكن عسكرياً ولا حاملاً للسلاح، لكنه لم ينجُ من عنف الحرب. أما والدتها، المدرسة الموسيقية، فقد اختارت أن تغير مظهرها واضعةً الحجاب بخوف واضح، وكأنها تحاول أن تتكيف مع عالم تحكمه أعراف الذكورية، التي ترى النساء كضحايا صامتات بدلاً من أفراد لهم أصواتهم الخاصة.
الخوف المستمر والخذلان أصبحا جزءاً من حياة النساء والأطفال في هذه القرية، يرويانه بصمت وعيون دامعة. وبينما تتقاطع قصصهن، يبدو أن صوت المعاناة واحد: حكايات عن نساء فقدن أبنائهن، أزواجهن، وحياتهن كما عرفنها. ورغم كل ذلك، يظل الأمل موجوداً في عيون طفلة بألوان المناكير التي لم تبهت، وفي وجوه الأمهات اللواتي يجدن في الذاكرة قوة للاستمرار، حتى في مواجهة نظام ذكوري لا يعرف سوى السيطرة والقهر.
وفي نهاية المطاف، تظل المرأة هي القلب النابض للقصص التي لا تُحكى وسط ضجيج الحرب، حيث تتحمل عبء الذكريات والوجع في عالم تُسيّره الذكورية التي لا تعرف سوى القهر والقوة. في مجتمعٍ حمل النساء تضحيات لا حدود لها، وجعلهن في وجه مصيرٍ متكرر من الفقد والخوف، تحولت كل دمعة وكل شهقة إلى شهادة على صمود يتحدى كل القيود. تظل المرأة، رغم كل هذا الظلم، رمزاً للإنسانية التي لا تُهزم، حتى عندما يحاول النظام الاجتماعي أن يختزلها في صمتها. وبينما يتكرر المشهد من بيت إلى آخر، تبقى قوة النساء أبلغ من أي صرخة، مقاومة للدمار، تحمل أملًا خفيًا في عالم لا يزال يمضي على أوجاعهن.
