سلام العبدالله
تُعدّ مدينة حلب واحدة من أعرق المدن السوريّة وأكثرها أهمية على كافة المستويات، التجارية والصناعية والثقافية، وقبل اندلاع الاحتجاجات المناهضة لنظام الأسد عام 2011، كانت تُلقب بـ”العاصمة الاقتصادية” للبلاد، بفضل تنوّع اقتصادها وتفوّقها في كافّة المجالات، الصناعية والتجارية والزراعية، فإلى جانب كونها مركزاً صناعياً هامّاً بسبب وجود العديد من المصانع التي كانت تنتج الألبسة والنسيج والأحذية والمواد الغذائية وغيرها، كانت التجارة مزدهرة أيضاً بفضل موقعها الاستراتيجي.
مع تصاعد أعمال العنف بعد عام 2011، تعرّضت المدينة لدمار هائل، ما أثّر بشكل كبير على معظم القطاعات الاقتصادية فيها، حيث دُمّرت المصانع والأسواق وتدهورت البنية التحتية، إلا أنه، وفي السنوات الأخيرة، برزت محاولات جادّة لاستعادة النشاط التجاري والصناعي، من خلال مشاريع إعادة الإعمار وتفعيل العلاقات التجارية مع الدول المجاورة.
الواقع الاقتصادي قبل 2011
قبل بداية الأزمة السورية، كانت حلب واحدة من أهم العواصم الصناعية في العالم العربي، نظراً لتنوّع الأنشطة الصناعية فيها، حيث كانت تضمّ مجموعة واسعة من الصناعات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب مصانع كبيرة ومتطورة ساهمت بشكل كبير في دعم الاقتصاد المحلي والوطني.
من أبرز الصناعات التي ازدهرت في حلب كانت صناعة النسيج، حيث كانت تُعدّ مركزاً رئيسياً لصناعة الأقمشة القطنية في سوريا، وكانت تنتج أنواعاً متعدّدة من الألبسة والأقمشة التركية الشهيرة، بالإضافة إلى ذلك، كانت حلب تُعرف أيضاً بالصناعات الجلدية والأحذية، التي كانت تلبّي احتياجات السوق المحلي وتساهك في صادرات الدولة.
أما في الصناعات الغذائية، فقد تألّقت المدينة بشكل خاص في إنتاج الزيوت النباتية، المعكرونة، الجبن، والحلويات، والتي كانت تُوزّع على نطاق واسع في سوريا والبلدان المجاورة، كما كانت المدينة تحتوي على مصانع للألبان والمعلبات التي لعبت دوراً مهماً في تأمين احتياجات الأسواق المحلية.
إضافة إلى هذه الصناعات، كانت هناك أيضًا مصانع في مجالات الأثاث والمفروشات، الأدوات المنزلية، المواد الكيميائية، والآلات. كما كانت الصناعة الهندسية والميكانيكية من القطاعات المهمة التي أسهمت في تطور المدينة الصناعي، حيث كانت مصانع الآلات والمعدات تلبّي احتياجات العديد من الصناعات الأخرى.
بهذا التنوّع في الصناعات، كانت حلب تمثّل قلب الاقتصاد الصناعي السوري، وتلعب دوراً محورياً في دعم الاقتصاد المحلي، بينما كانت تصدّر منتجاتها إلى العديد من الأسواق الخارجية، ما عزّز من مكانتها كأحد أهم مراكز الإنتاج في المنطقة.
على الصعيد التجاري، تُعد حلب واحدة من أقدم المدن التجارية في الشرق الأوسط، بفضل موقعها الجغرافي المميز الذي يقع قرب الحدود التركية وعلى مفترق الطرق التجارية التاريخية، ما جعلها تشكّل حلقة وصل حيوية بين الشرق والغرب. كانت المدينة تتمتّع بعلاقات تجارية متميّزة مع تركيا والدول العربية، بالإضافة إلى الأسواق الأوروبية.
كان سوق حلب القديم، الذي يُعد من أقدم الأسواق في العالم، نقطة التقاء رئيسية للتجار والمستهلكين، حيث كان يحتوي على مئات المحال التجارية التي تبيع الذهب، النسيج، الأواني النحاسية، والمنتجات الزراعية، كما توافرت فيها بنية تحتية متطوّرة نسبياً مقارنةً ببقية المدن السورية، حيث كانت تضم شبكة من الطرق المعبّدة التي تسهّل التنقل داخل المدينة وبينها وبين المدن الأخرى، بالإضافة إلى الموانئ البرية التي كانت تسهم في تسريع حركة التجارة. كذلك كانت المدينة تحتوي على العديد من المرافق الصناعية التي تدعم القطاعات الإنتاجية المختلفة، والمنشآت التعليمية التي توفر فرص التعليم والتدريب لأبناء المدينة.
في مجال الاستثمار العقاري، شهدت حلب نمواً ملحوظاً في مشاريع الإسكان والمراكز التجارية، ما انعكس ازدهاراً في النشاط العقاري وعزّز من مكانة المدينة كمركز حضري متقدّم. أما في مجال التعليم، فقد كانت حلب تضم جامعة ومدارس فنية تهدف إلى تأهيل القوى العاملة المحلية، وتزويدها بالمهارات اللازمة لرفد الاقتصاد الصناعي والتجاري للمدينة.
الواقع الاقتصادي بعد 2011
مع اندلاع الثورة السورية، تعرّضت مدينة حلب لدمار هائل طال معظم قطاعاتها الاقتصادية، ما أدّى إلى تدهور كبير في مختلف المجالات. في القطاع الصناعي، تعرّض كثير من المصانع للإغلاق التام أو النهب أو التدمير بسبب القصف المستمر، فشهدت الصناعات التقليدية مثل النسيج، الصناعات الغذائية، والجلدية تراجعاً كبيراً.
العديد من المصانع تعطّلت بسبب دمار البنية التحتية وغياب الأمن، ما أثّر بشكل مباشر على الإنتاجية، إذ دُمّرت الطرق، الجسور، شبكات الكهرباء والمياه، ما أسفر بطبيعة الحال عن تراجع القدرة الإنتاجية وتوقف الأنشطة التجارية، فقد تعرّضت الأحياء الشرقية من حلب لحصار طويل من قبل القوات الحكومية بين عامي 2012 و2016، وأدى ذلك إلى نقص حاد في المواد الغذائية والسلع الأساسية. هذا الحصار كان له تأثير بالغ على النشاط التجاري، حيث أصبح الوصول إلى الأسواق منقطعاً تماماً، ما جعل الأنشطة التجارية مقيدة للغاية أو شبه متوقّفة، تزامناً مع تراجع الأنشطة الاقتصادية الرسمية.
من جانب آخر، بدأ الاقتصاد غير الرسمي في الازدهار بشكل ملحوظ، حيث انتشرت الأسواق السوداء وعمليات التهريب. كانت تجارة الأسلحة والمواد الأولية التي تُستخدم في البناء والإعمار من أبرز الأنشطة التجارية التي شهدت نمواً في السوق المحلية، حيث سعت العديد من الأطراف لتلبية احتياجات السوق وسط الحصار.
كما أدى النزوح الجماعي لسكان حلب، سواء إلى داخل سوريا أو خارجها، إلى زيادة المعاناة الاقتصادية، وفقدت حلب جزءاً كبيراً من العمالة المحلية، ما أثّر أيضاً على القدرة الإنتاجية وتسبّب في تراجع الطلب على السلع والخدمات.
في ظل هذه الظروف الصعبة، لعبت المساعدات الإنسانية دوراً محورياً في استمرار الحياة الاقتصادية في الأحياء المحاصرة، حيث كانت المساعدات الغذائية والطبية تشكّل شريان حياة للسكان، وتساهم في توفير جزء من احتياجاتهم الأساسية.
عودة بطيئة للأنشطة التجارية والصناعية
مع تقدّم العمليات العسكرية عام 2016 واستعادة قوات النظام السابق السيطرة على مدينة حلب، بدأت بعض الأنشطة التجارية في العودة تدريجياً إلى المدينة، ومع ذلك، كانت هذه العودة بطيئة ومشروطة بعدد من التحديات الكبيرة التي كانت تؤثر على التعافي الاقتصادي.
بدأت الحكومة السورية حينها في تنفيذ مشاريع لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، لكن هذه الجهود واجهت صعوبة كبيرة بسبب النقص في التمويل وصعوبة الحصول على مواد البناء. من جهة أخرى، بدأت بعض المصانع الصغيرة والمتوسطة في العودة للعمل بعد إعادة تأهيل المنشآت، إلا أن القطاع الصناعي ظل يواجه عقبات من قبيل الانقطاع المستمر للكهرباء، الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام، وقلة اليد العاملة المُدرّبة.
على نحو مماثل، عادت بعض الأنشطة التجارية إلى المدينة، خاصة بعد افتتاح المعابر التجارية مع تركيا والدول المجاورة، ما ساهم في إعادة النشاط التجاري في بعض أسواق حلب، خاصةً في المناطق التي تم إعادة تأهيلها، وكذلك كان تعافي القطاع الزراعي بشكل بطيء، حيث تم إعادة تأهيل بعض الأراضي الزراعية، لكن التحديات الأمنية والجفاف شكلت عائقاً أمام تعافي الزراعة.
بموازاة ذلك، استمرّ الاقتصاد غير الرسمي في لعب دور كبير في دعم النشاط الاقتصادي المحلي، خاصة في المناطق التي كانت تشهد صراعات مستمرة، حيث تعتمد العديد من الأسر على تلك الأنشطة للبقاء على قيد الحياة.
بعد سقوط نظام الأسد نهاية العام الفائت، تجددت محاولات إعادة الإعمار في المدينة، بالاستفادة من الدعم المحلي والدولي، حيث بدأت بعض الأنشطة التجارية والصناعية في العودة تدريجياً. ومع ذلك، فإن هذه العودة لا تزال بطيئة وغير متكاملة، لأن التحديات الكبرى تهيمن على المشهد الاقتصادي، مثل النقص في التمويل، الدمار المستمر في بعض المناطق، والافتقار إلى المواد الخام. لكن؛ وعلى الرغم من ذلك، ومع استمرار الجهود المبذولة، تتّجه حلب نحو استعادة جزء من نشاطها التجاري والصناعي، وإن كان ذلك بشكل بطيء.
