FPN
أصدر رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، أمس السبت، مرسوماً رئاسياً يقضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” كهيئة مستقلة تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في عهد النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا.
المرسوم نصّ على تعيين عبد الباسط عبد اللطيف رئيساً للهيئة، مع تكليفه بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال ثلاثين يوماً.
ترحيب رسمي وحقوقي مشروط
لاقى المرسوم ترحيباً في بعض الأوساط، حيث اعتبره البعض خطوة أولى نحو مسار العدالة وإعادة الثقة بالمؤسسات الانتقالية، كما أشاد البعض بـ”الاعتراف الرسمي بضرورة العدالة”، معتبرين أن تشكيل هيئة مستقلة تعنى بكشف الحقيقة يمثّل تطوراً إيجابياً، حتى لو جاء متأخراً.
بعض الناشطين والناشطات أوضحوا أن مثل هذا المرسوم قد يكون بداية لإرساء آليات محاسبة قانونية، ولو جزئية، عن عقود من الجرائم والانتهاكات. كما عبّر بعض ذوي الضحايا عن أملهم بأن تكون الهيئة بداية لمعرفة مصير أبنائهم وبناتهم المختفين قسراً، ومحاسبة المجرمين.
لكن أصوات الاعتراض كانت أعلى
في المقابل، أثار المرسوم موجة انتقادات عارمة من ناشطين وناجيات وذوي ضحايا، ممن اعتبروا أن الهيئة ستكون أداة جديدة لطمس الحقيقة بدلاً من كشفها. تقول الصحفية والناجية ميسا صالح في منشور لها: “وهكذا تختفي وتُدفن قضايا سمر صالح، رزان زيتونة، سميرة خليل، محمد، وائل، ناظم، وآلاف القضايا لناسنا اللي كانوا ضحايا لجرائم رجال السلطة الحالية، رجال أسسوا وقادوا وقاتلوا مع تنظيمات متوحشة، صار اسمهم اليوم رؤساء ووزراء وأعيان.”
تأتي هذه المخاوف على خلفية ما يعتبره كثيرون غياباً كاملاً لمحاسبة الفصائل المسلحة التي ارتكبت انتهاكات ممنهجة، لا تقل فظاعة عن تلك التي ارتكبها النظام السابق. من هذه الانتهاكات، تشير شهادات إلى جرائم قائمة على النوع الاجتماعي، من التزويج القسري إلى الاغتصاب والقتل والاختفاء القسري، بالإضافة إلى جرائم التغيير الديمغرافي والثقافي.
العدالة أم عدالة المنتصر؟
في تعليق للكاتب والباحث مالك حافظ، يقول: “العدالة التي تغضّ الطرف عن محاسبة كل الجناة أو تعويض المتضررين، ليست عدالة انتقالية. إنها عدالة المنتصر”، وأضاف: “عندما تُغيّب انتهاكات أطراف كهيئة تحرير الشام أو تنظيم داعش، فإن ميزان العدالة يختل، وتُفرغ العملية من مضمونها الأخلاقي.”
حافظ أشار إلى أن العدالة الانتقالية الحقيقية تقوم على ثلاثة أعمدة: الاعتراف، والإنصاف، والكرامة المتساوية لجميع الضحايا. وإذا غاب أحد هذه الأعمدة، تصبح العملية برمّتها أداة لإعادة إنتاج التفاوتات والاستقطابات، بدلاً من تفكيكها.
خوف على الذاكرة ومخاوف من الإقصاء
يخشى كثيرون أن تكون “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” مجرّد غطاء قانوني لتبييض جرائم المرحلة الحالية، عبر تغييب الانتهاكات التي ارتكبتها “سلطات الأمر الواقع” أو اختزال المسؤولية في نظام الأسد فقط.
وفي بلد مثخن بالجراح، تتطلب العدالة أكثر من تشكيل هيئة: تحتاج إلى صدق سياسي، وشمول أخلاقي، وجرأة في مواجهة الحقيقة دون انتقاء، لكي لا تتحوّل العدالة إلى عملية طيّ للذاكرة بدلاً من إحيائها.
