بشار يوسف
في النشيد الثالث من الكوميديا الإلهية، يقول دانتي عن جماعة تُعذَّب خارج أبواب الجحيم إنّهم عاشوا “دون عار ولا مجد” لأنهم لم يكونوا أشراراً، ولم يكونوا صالحين كذلك، فقد وقفوا على الحياد بينما كانت الحياة تتطلّب موقفاً، لذلك، حتى الجحيم يرفض استقبالهم، فلا مكان لهم، لا في النور ولا في الظلمة.
تلك الفئة التي يتحدّث عنها دانتي تشبه إلى حدّ بعيد كثيراً من الوجوه التي نعرفها اليوم في أوساط من يُعرفون بالمثقفين أو النخبة، ممن اختاروا الصمت أو الحياد أثناء وبعد أحداث الساحل والسويداء، متناسين أنه في اللحظات الأخلاقية الكبرى يُمسي الحياد ضرباً من الخيانة.
حين يغدو الصمت وظيفة
في الوقت الذي تسعى فيه حكومة أحمد الشرع إلى تثبيت حكمها عبر سلسلة من الإجراءات السياسية والعسكرية، تجد “فصيلاً” من المثقفين يساهمون، عن قصد أو بغيره، في تزوير الوعي العام لصالح “السلطة الانتقالية” ودعم ممارساتها التي غالباً ما أفضت إلى انتهاكات أو جرائم جسيمة. هؤلاء، بعد تغيّر موازين القوى عقب سقوط نظام الأسد نهاية العام المنصرم، سرعان ما تخلّوا عن أدوارهم المُفترضة في المجتمع، وتحوّلوا إلى موظّفين طيّعين، سواء عبر صمتهم، أم التبريرات التي يسوقونها، تحت ذريعة “الواقعية السياسية” أو “فهم تعقيدات المرحلة”.
ليس من المجحف اعتبار ذلك نوعاً من التواطؤ، إذ لا يمكن للمثقف الحقيقي أن يتّسم بازدواجية المعايير بهذه السذاجة، ولا يحقّ له بطبيعة الحال أن يتّخذ موقفاً نقدياً تجاه النظام السابق، ويصمت أو يبرّر ممارسات النظام الجديد، وإلا تحوّل بسهولة إلى “أداة”. في هذا السياق، يرى إدوارد سعيد، في كتابه “المثقف والسلطة”، أن على المثقف اتخاذ موقف أخلاقي متّسق، وألّا يكون “موظفاً لدى طرف” ضدّ طرف آخر، فهذا من شأنه أن يحوّله إلى أداة لتزييف الوعي، مشدّداً على أنّ “المثقف لا يكون مثقفاً حين يلتزم الصمت المريح”. كذلك، يؤكّد نعوم تشومسكي على ذات الفكرة في مقال له حول حرية التعبير والدور الإعلامي في تهميش جرائم الحلفاء بالقول إنك حين تصمت عن جرائم السلطة التي تنتمي إليها، وتدين فقط جرائم خصومها، أنت لا تمارس الأخلاق، بل الدعاية، فوفقاً لتشومسكي، الصمت إزاء سلوك قمعي هو مشاركة فيه، والمثقف الذي يتغاضى عن الانتهاكات ويتستّر على الحقيقة، أو جزء منها، يخون رسالته الأصلية، التي تتمثّل باختصار في “قول الحقيقة في وجه السلطة”.
هناك جانب آخر لا يمكن إغفاله عند الحديث عن “المثقف المتواطئ” الذي يعمل بشكل دؤوب ليكون “نخبوياً”، وهو المنفعة الخاصة، حتى الرمزية منها، والتي يبدو أنها لعبت دوراً كبيراً في إغواء البعض ليشاركوا في إضفاء الشرعية على ما لا يستحقّ، من قبيل الإعلان الدستوري ومؤتمر الحوار الوطني وغيرها من الإجراءات التي حصرت كل السلطات في قبضة الشرع، ولذلك يميّز أنطونيو غرامشي بين المثقف التقليدي و”المثقف العضوي” الذي يخسر استقلاليته لصالح الطبقة الحاكمة التي ينتمي إليها أو يخدمها من خلال الاختباء خلف عباءة “المسؤولية السياسية” لتبرير أفعال السلطة، وهذه “الحيلة الفكرية” تجعل من المثقف شريكاً في القمع، على حدّ تعبير ماكس فيبر، الذي يجادل بأنّ المثقف أو السياسي إن لم يكن مدفوعاً بقيم أخلاقية صلبة قد يجد نفسه يُبرّر أفعال السلطة تحت غطاء البراغماتية والفاعلية السياسية، وبناءً على ذلك يفرّق فيبر بين “أخلاقيات القيم” المبنية على التمسّك بقيم أخلاقية مجرّدة بغضّ النظر عن النتائج، و”أخلاقيات المسؤولية” التي تركّز على النتائج المترتّبة على الأفعال السياسية مهما كانت طبيعتها، وبالتالي تبريرها.
في بعض الأحيان يصبح خطأ المثقف موقفاً لا يمكن التراجع عنه، وهو ما يتطلّب منه دفاعاً متكرّراً عن ذاك الموقف، ليجد نفسه عارقاً في سلسلة من الأخطاء المتلاحقة تحدّد بمرور الوقت منهجه، وبالتالي يتماهي أكثر مع السلطة، ليس حبّاً فيها، بل إصراراً منه على عدم التراجع عن موقفه والاعتراف بخطئه، ولعل ذلك ينطبق على كثير من وجوه المعارضة القديمة، ممن كرروا خيبة أمل السوريين فيهم، عبر فشلهم السياسي سابقاً، و مهادنة السلطة الجديدة في الوقت الراهن.
دور المثقف الحقيقي
ليس مطلوباً من “المثقف” أو “النخبوي” أن يحمل السلاح بالطبع، ومن المفهوم أيضاً أن ينتابه الخوف من التعرّض للمساءلة أو ربّما ما هو أسوأ من ذلك في ظل الانفلات الأمني والتجييش الطائفي المتزايد، لكن ما لا يمكن القبول به هو أن يضع نتاجه في خدمة السلطة عبر منحها تأصيلاً سياسياً لممارساتها، حتى دون أن يُطلب منه بشكل مباشر أن يبرّر لها أو أن يصمت عن أفعالها، أو أن تتحوّل المقالات والندوات على سبيل المثال إلى غلاف نظري يؤسس لسلطة قمعية جديدة بما يسمح بتوسيع نفوذها وتكرار ذات الممارسات على نطاق أوسع.
بكلمات أخرى، لا يجوز للمثقف أن يكون صوت السلطة، ولا ناطقاً باسم المنطق، ومهمّته ليست أن يقنع الناس بأن القمع ضرورة، ولا أن يفهم “تعقيدات الدولة”، بل تتجلّى مهمّته في طرح الأسئلة؛ الأسئلة التي يخشى الآخرون من طرحها على وجه التحديد، في ظل حالة الإنهاك الإنساني والقيمي التي يعاني منها السوريون الذين يصارعون يومياً للنجاة بعد عقد ونصف من الحروب والأزمات.
حول هذه النقطة يرسم جان بول سارتر خطوطاً حاسمة: المثقف لا يبرّر، بل يدين، وإلا فإنّه يمهّد طريقه لدخول ثقافة القمع كموظف صامت، وعلاوةً على ذلك، يطلب منه أيضاً استخدام نفوذه من أجل تحقيق التغيير والعدالة. بالنسبة إلى ميشيل فوكو أيضاً لا يجب أن يعمل المثقف على تقديم بدائل جاهزة، بل يتوجّب عليه أن يشكّك في الخطابات الرسمية وأن يفكّك رواياتها، ويوضّح في إحدى محاضراته أن ماهية النقد تعني الهجوم على خطاب السلطة وفضح العنف السياسي الذي ينتشر عبر مؤسسات قد تبدو محايدة، وهو ما يشاركه فيه ماكس فيبر أيضاً، الذي يعتبر أنه لا يُنتظر من المثقف أن يقدّم حلولاً، بل أن يزعزع البُنى المستقرة، وأن يشكّك في السرديات الجاهزة، وأن يكشف الخطابات المبطّنة بالقوة، فمسؤوليته الأخلاقية تبدأ من القدرة على قول “لا”، حتى لو كان يعمل من داخل المنظومة، أو يسعى لأن يكون جزءاً منها.
بإيجاز، حين يُصبح الصمت وظيفة، والموقف سلعة، لا تقتصر المعركة على مقارعة الطغيان وأدواته فحسب، بل من يجعلونه مفهوماً أيضاً، لأن إضفاء الشرعية على أفعال السلطة يقود إلى ما تصفه حنة آرندت بـ”ابتذال الشر” عبر تحويل الخطر الأخلاقي إلى شيء مألوف، وهو ما كان يعيبه مثقفو اليوم على مثقفي السلطة بالأمس.
