FPN
شهدت بعض المؤسسات التعليمية في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد، وتولي حكومة تسيير الأعمال مسؤولياتها، سلسلة من القرارات المثيرة للجدل التي تتعلق بالفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات. هذه القرارات، التي غالباً ما تفتقر إلى الوضوح الرسمي وتصل عبر قنوات غير رسمية، مثل الواتساب والتلغرام، فتحت باب التساؤلات حول طبيعة هذه الإجراءات وما إذا كانت تعكس سياسات ممنهجة أو أنها اجتهادات فردية تهدف إلى ضبط سلوكيات اجتماعية تحت ذرائع من قبيل “حماية القيم الأخلاقية”.
الفصل بين الأطفال في المدارس
انتشر تعميم غير رسمي عبر تطبيق “واتساب” بين مدراء المدارس، ينص على منع جلوس الأطفال من الجنسين على نفس المقعد، مع التهديد بمحاسبة المخالفين للقرار. هذا التعميم، الذي وصل إلى مدراء المدارس كرسالة صوتية أو نص مكتوب، أثار بلبلة كبيرة في الوسط التعليمي.
بحسب شهادة مديرة إحدى المدارس في ريف طرطوس (طلبت عدم ذكر اسمها) جاء في التوجيه: “لا يُسمح بوضع طالب وطالبة معاً بنفس المقعد تحت طائلة المسؤولية”. المدير أوضحت لـ”شبكة الصحافة الحرة” أن الرسالة لم تكن مصحوبة بقرار رسمي موثق بختم وزارة التربية أو توقيع واضح. وأضافت: “بعض المدارس تجاوبت سريعاً وفصلت الطلاب عن الطالبات، ولا سيما في الحلقات الدراسية الأولى والثانية، بينما فضّلت مدارس أخرى التريث حتى يتم التأكد من صحة التعميم”.

على الرغم من أن وزارة التربية نفت لاحقاً إصدار هذا القرار، إلا أن غياب توجيه رسمي واضح وسرعة تطبيقه في بعض المدارس يعكس حالة من الفوضى الإدارية والتخوف من العقوبات التي قد تُفرض بسبب “عدم الامتثال”.
منع وقوف الطلاب أمام وحدات السكن الجامعي
لم ينحصر الجدل في المدارس، بل امتدّ إلى الجامعات، إذ أصدرت إدارة المدينة الجامعية في اللاذقية تعميماً آخر يقضي بمنع الطلاب من الوقوف أمام الوحدات السكنية الخاصة بالإناث. التعميم حمل توقيع مدير المدينة الجامعية ورئيس لجنة تسيير الأعمال.

هذا القرار أثار استياء بعض الطلاب الذين تحدثوا لشبكة الصحافة الحرة، واعتبروه تقييداً غير مبرر لحركتهم داخل الحرم الجامعي، خصوصاً أنه جاء في وقت تعاني فيه المدينة الجامعية من أزمات أخرى مثل الاكتظاظ وسوء الخدمات، كما اعتبروا أن هذه الإجراءات تنتهك مبدأ المساواة وتضع قيوداً إضافية على الحريات الفردية.
آثار القرارات على البيئة التعليمية
القرارات المتعلقة بالفصل بين الجنسين، سواء في المدارس أم الجامعات، تطرح عدة إشكاليات تؤثر بشكل مباشر على البيئة التعليمية، منها غياب الشفافية وآليات التعميم الرسمية، فالاعتماد على قنوات غير رسمية لتعميم القرارات يُظهر ضعف النظام الإداري للمؤسسات التعليمية، حيث تُترك القرارات للاجتهادات الفردية دون وجود مرجعية رسمية واضحة، إضافة إلى الانقسام في التنفيذ، فغالباً ما تُنفّذ بشكل متفاوت بين المؤسسات التعليمية، إذ يخشى البعض من المساءلة ويطبقها فوراً، بينما يرفضها آخرون في انتظار توجيه رسمي، ما يخلق بيئة من الفوضى وعدم الاتساق.
إضافة إلى الإضرار بالمساواة والاندماج، فالفصل بين الجنسين في المراحل التعليمية الأولى قد يؤثر على فرص الأطفال في بناء علاقات اجتماعية صحية ومتعادلة، كما يعزز النظرة النمطية التي تفصل بين الجنسين بناءً على “مخاوف أخلاقية” غير مبررة. كما أنّ مثل هذه القرارات تُعتبر من قبل كثيرين تقييداً للحريات الفردية التي يجب أن تكون مصانة في المؤسسات التعليمية، التي من المفترض أن تكون فضاءً للنقاش والتعايش.
ردود الأفعال المجتمعية
واجهت هذه القرارات انتقادات واسعة من الطلاب وأولياء الأمور والنشطاء التربويين. اعتبر البعض أن هذه الإجراءات تعكس توجهاً متزايداً نحو التشدد الاجتماعي والإداري، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى التركيز على تحسين جودة التعليم وحل الأزمات التي تعاني منها المؤسسات التعليمية.
من ناحية أخرى، يرى المدافعون عن هذه الإجراءات أنها تهدف إلى الحفاظ على القيم الاجتماعية في مجتمع يعاني من اضطرابات بعد سقوط النظام، وأنها محاولة لضبط السلوكيات في ظل غياب واضح للقوانين الرادعة.

رؤية أوسع للمستقبل
في ظل الأزمات التي تواجهها المؤسسات التعليمية في سوريا، يبدو أن الأولويات يجب أن تركز على تحسين البنية التحتية، وضمان التعليم الجيد للأطفال والطلاب الجامعيين، بدلًا من التركيز على قرارات متشددة غير مبررة، كما أن الحاجة إلى الشفافية في إصدار القرارات والتواصل الرسمي مع الإدارات التعليمية أصبحت ضرورة لا يمكن تجاهلها لتجنب الفوضى والارتباك.
تسلط القرارات المتعلقة بالفصل بين الجنسين في المؤسسات التعليمية الضوء على تحديات كبرى تواجه القطاع التعليمي في سوريا، بدءاً من غياب الشفافية في آليات صنع القرار وصولًا إلى التأثير السلبي لهذه الإجراءات على الحريات والمساواة، ويبقى السؤال مفتوحاً: هل هذه القرارات تعكس سياسة منظَّمة تهدف إلى إعادة صياغة القيم الاجتماعية، أم أنها اجتهادات فردية تحت ضغط الظروف الراهنة؟
