محمد العابد
شهدت سوريا خلال الأشهر الأخيرة تحولات سياسية متسارعة قلبت المشهد رأساً على عقب. أحد أبرز هذه التحولات كان صعود طرف عسكري لطالما حُسب على التنظيمات الإرهابية، وكان حتى وقت قريب موضوعاً على قوائم العقوبات الدولية ولا يزال، ومع سقوط بعض هذه العقوبات واحدة تلو الأخرى، أُزيحت منها المكافأة المالية التي بلغت عشرة ملايين دولار عن رأس الجولاني، الذي بات اليوم يُعرف بـ أحمد الشرع، رئيس الفترة الانتقالية التي قد تستمر لخمس سنوات.
لم يكن هذا التحول وليد الصدفة، بل جاء نتيجة سلسلة متلاحقة من الأحداث بدأت بسقوط نظام بشار الأسد بعد معركة ردع العدوان التي امتدت من حلب إلى حمص ثم إلى كامل البلاد، مع تخلي الحلفاء الإقليميين والدوليين عن نظام الأسد. دخول غرفة العمليات المشتركة من الجنوب إلى دمشق كان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة، سقط فيها النظام السابق، وصعدت إلى السطح هيئة تحرير الشام التي حُلت لاحقاً في مؤتمر النصر في العاصمة دمشق.
خلال أقل من 55 يوماً تبدلت ملامح السلطة في سوريا بشكل جذري: من نظام استبدادي امتلك البلد ومؤسساته ونهب ثرواته، إلى سلطة غير مستقرة. بعض رموزها نظام الأسد هربوا إلى موسكو وأربيل، والبقية تُركوا في الميدان لمصيرهم المجهول في مواجهة “مجموعات إسلامية” جديدة تسعى لإعادة ترتيب الوضع الأمني وفق رؤاها الخاصة.
تحول المؤتمر الوطني الذي كان من المفترض أن يرسم ملامح المرحلة الجديدة إلى لقاءات استشارية، وتحول الجولاني إلى رئيس مؤقت، تاركاً البلاد في حالة من الفراغ المؤسساتي. وفي ظل هذا الفراغ يُطرح السؤال الأهم: هل نحن مقبلون على سيناريو يعيد إنتاج سلطة ما بعد الشرع؟
خريطة بعض القوى العسكرية والمسلحة في سوريا
بعد أن أمعن النظام السوري في قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة في حلب وحماة وحمص، فُتح الباب واسعاً أمام القوى الدولية للتدخل المباشر وغير المباشر في الثورة السورية التي صارت صراعات. منذ عام 2011 تحولت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث تمددت أذرع روسيا عسكرياً وسياسياً، وشنت إسرائيل مئات الغارات الجوية في العمق السوري، بينما رسخت تركيا وجودها عبر الفصائل التابعة لها في الشمال، وأقامت الولايات المتحدة قواعدها في الشرق. لم تقتصر التدخلات على القوى الكبرى، بل لعبت جهات غير دول – مثل قوى كردية مدعومة من جبال قنديل – أدواراً محورية في صياغة معادلات السيطرة والنفوذ، إلى جانب تمويل ودعم سياسي خارجي متنوع لقوى الأمر الواقع الجديدة القديمة.
في هذا المشهد، برزت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كأحد أهم اللاعبين العسكريين والسياسيين في الشمال الشرقي من البلاد. هذا التحالف، الذي يضم فصائل كردية وعربية وآشورية، مثل قوات النخبة السورية ومجلس منبج العسكري /فصائل عربية/، وقوات السوتورو وقوات الصناديد وقوات الدفاع السريانية /فصائل آشورية وعربية/، إلى جانب وحدات حماية الشعب /YPG/ ووحدات حماية المرأة /YPJ/، أسس بنية عسكرية متعددة الهويات، تتراوح قوتها بين 50,000 و60,000 مقاتل. وبدعم مباشر من التحالف الدولي، خاصة الولايات المتحدة، تسيطر قسد على مناطق استراتيجية، لا سيما حقول النفط في دير الزور والحسكة مثل حقل العمر وحقل التنك، ما منحها نفوذاً اقتصادياً كبيراً في معادلة الحرب. وتتولى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إدارة شؤون هذه المناطق، في حين يمثلها سياسياً مجلس سوريا الديمقراطية /مسد/، الذي يطرح مشروع فيدرالي يُفترض أنه يضمن حقوق الأقليات ويدير التعددية القومية والدينية.
غير أن هذا التكوين، رغم شموليته الظاهرة، لم يخلُ من التحديات: رفض داخلي من بعض الأطراف العربية، رفض تركي مطلق بحجة الارتباط بحزب العمال الكردستاني، وغياب الاعتراف الدولي الكامل.
القوات في الجنوب السوري: تتوزع القوات المسلحة في الجنوب السوري بين منطقتين رئيسيتين: درعا و السويداء، حيث تحتوي كل منطقة على فصائل محلية متعددة تشارك في القتال. في درعا، تتواجد عدة فصائل معارضة، أبرزها الجبهة الجنوبية، جيش الثورة، جيش الأبابيل، و فرقة أسود السنة، والتي تعمل تحت المجلس العسكري لكتائب الجنوب السوري.
في السويداء، يتواجد العديد من الفصائل المحلية البارزة مثل رجال الكرامة و لواء الجبل المحسوبين على المعارضة السورية, ومجموعات أخرى عديدة. تتمتع هذه الفصائل بتركيبة اجتماعية ودينية خاصة بها، ولها دور بارز، حيث تتبنى مواقف سياسية محلية تتعلق بالحفاظ على سيادة المنطقة في ظل المتغيرات العسكرية والسياسية.
قوات الساحل: لا يوجد تقدير دقيق لعدد المقاتلين في الساحل السوري، لكن المعروف أن هناك العديد من العناصر الأمنية و الضباط الذين كانوا يعملون في الفروع الأمنية التابعة للنظام، إضافة إلى العسكريين في الرتب غير العالية. تتواجد أيضاً مجموعة من اللجان الشعبية و كتائب البعث، حيث يتمركز العديد من المتطوعين في هذه المنطقة.
تتفاوت التقديرات بشأن الأسلحة المتواجدة في المنطقة، حيث يُعتقد أن كميات كبيرة من الأسلحة تابعة للنظام السابق تُخزن في المخازن المحلية. ويصعب تحديد كمية الأسلحة بدقة، خاصة مع وجود العديد من المخازن الذاتية والأسلحة الفردية المنتشرة بين الأهالي والموالين للنظام السابق.
مستقبل النظام والسيناريوهات المحتملة لتغييره
هل يمكن للحكومة الحالية في سوريا أن تبقى؟ وهل يوجد سيناريو قادر على إسقاط هذه الحكومة؟ إذا كنا نريد أن نقول إن اللحظة الأخيرة التي اتفقت عليها القوى الإقليمية والدولية بشأن إسقاط أو قبول إسقاط بشار الأسد، كانت هناك رغبة تركية لذلك، وطلب رأس السلطة في تركيا مقابلة بشار الأسد لأكثر من ستة أشهر من أجل إنشاء مباحثات تتمحور حول وجود القوى الكردية في شمال شرق سوريا. وفي النهاية كان من الواضح أن الروس اكتشفوا أن النظام غير قادر على حماية نفسه، وأنهم لا يستطيعون حسب تصريحاتهم السيطرة على الأرض، رغم مشاركتهم في حملات عسكرية. أما إيران فكانت غير قادرة أساساً على مواجهة هذه القوى الموجودة في سوريا، وأيضا لأن القوات الأمريكية منعت تقدمها في وقتها.
فهل يوجد الآن قوة قادرة على إسقاط النظام الجديد؟ أعتقد أنه إذا كانت هناك لحظة تاريخية تتوافق فيها القوى الثلاث: الأمريكية، والتركية، والروسية، على إسقاط نظام الشرع، ففي هذه اللحظة سيكون هناك قدرة على تجميع بعض القوى العسكرية الموالية أو الغاضبة من النظام. ومن بين هذه القوى: بقايا النظام السابق من اللجان الشعبية، وكتائب البعث، والفروع الأمنية، التي قد تجمعوا في الساحل السوري بعد أن هربوا من المدن السورية الأخرى. هؤلاء لديهم الخبرة العسكرية والقدرة على التنظيم بسرعة، لكنهم يفتقرون إلى الإذن الدولي والحماية الدولية.
المنطقة الجنوبية في سوريا التي ترتبط بشكل جيد بالقوى الروسية التي أسستها أساساً، والكتائب الموجودة في جبل حوران التي رفضت تسليم سلاحها للسلطة إلا بعد توضيح شكل سوريا الحديث. إضافة إلى قوات سورية الديمقراطية، والذين رفضوا تسليم سلاحهم للنظام السوري في شكله الحالي. بالإضافة إلى عدد من الضباط العسكريين المنشقين أساساً الموجودين في روسيا، هناك آلاف الضباط والعسكرين المنشقين الموجودين في المخيمات في تركيا، كل ذلك قد يكون قادراً على التجمع في حال وجود القرار الروسي الأمريكي التركي، وتشكيل مجلس عسكري قد يكون برئاسة أحد الضباط السابقين المحسوبين على الأكثرية الدينية في سوريا, مع وجود أربع شخصيات عسكرية موزعة على الساحل والسويداء، ودرعا وقوات سوريا الديمقراطية.
يمكن لهذا التحالف العسكري أن يتعاون لمحاربة قوات الحكومة الانتقالية, ومن معها من جميع الجهات، لمحاولة القضاء عليها. إضافة إلى الدعم العسكري التركي والروسي والأمريكي.
في السياسة، دائماً هناك خيارات. عندما لا تلبّي رغبات الدول الكبرى أو الفاعلة، يتم تبديل الأولويات واللاعبين، ودعم شيء مقابل شيء حتى يُدمّر شيء آخر. دعم قوة مقابل قوة لتدمير قوة أخرى.
هل يمكن أن تقبل تركيا بذلك؟ فقد يتجه الشرع إلى الخليج العربي، المنافس المباشر لتركيا في العالم الإسلامي، لإرضاء الحليف الروسي الذي يعتبر أن تركيا قد انقلبت عليه في سوريا، أم أننا مقبلون على نظام يتشكل من تركيبة مصالح اقتصادية وسياسية تقوم على تنسيق التفاهمات الدولية في المنطقة؟
