FPN – إبراهيم زرقه
قد يكون الموسم السياحي في الساحل السوري هذا العام مختلفاً عن المواسم السابقة، فمن جهة، هو أول موسم صيفي يُعاش من دون الأسد، شأنه شأن العديد من الأمور الموسومة بـ”الأولى بعد الأسد”، ومن جهةٍ أخرى، يتيح هذا الموسم لكثيرٍ من السوريين فرصة ملامسة البحر الذي حُرموا منه سابقاً بفعل السياسات الأمنية والتضييق الذي طال شرائح واسعة من المجتمع خلال فترة النظام السابق.
يحمل هذا الصيف رمزية سياسية وشعبية واضحة؛ إذ يراه البعض فعل تحرّرٍ رمزي من قبضة الاستبداد التي كانت تتحكّم حتى بأدقّ تفاصيل الحياة اليومية. لكن، فرحة السوريين بخلاصهم من الأسد وميليشياته لم تكتمل؛ فقد خرج وزير السياحة بقرار جديد يفرض قيوداً على اللباس في المواقع السياحية، ما أثار موجة استياء وغضب على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع السوري. سرعان ما تراجع الوزير عن القرار وحاول تلطيفه، إلا أنّ التبريرات لم تبدّد الإحباط العام، ولا سيّما أن هذا التدخل أعاد إلى الأذهان أسلوب السلطة التي يبدو أنّ جوهرها لم يتغيّر، وإن تبدّل رأسها.
الواقع شيء، ومنصّات التواصل الاجتماعي شيء آخر. فبينما يسعى عدد كبير من المؤثرين إلى الترويج لصورة “موسم سياحي قوي في سوريا”، تبدو الحقيقة على الأرض مغايرة؛ إذ يواجه عموم السوريين صعوبات جدية في الوصول إلى المناطق السياحية، سواء لأسباب اقتصادية أم أمنية، ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: سياحة مَن؟ ولِمَن؟
أسعار فلكية ومقارنة مؤلمة مع دول الجوار
تزامن بدء الموسم الصيفي هذا العام مع حلول عيد الأضحى، وهو تقليدياً موعد مفضّل لكثير من السوريين لتمضية الإجازة على الساحل. لكن المشهد الاقتصادي تبدّل جذرياً؛ فالسفر إلى الساحل، حتى من داخل سوريا، بات حلماً بعيد المنال لعديد من الأسر.
ينتشر على الساحل السوري عدد من المنتجعات المطلة على البحر، إلى جانب المناطق الجبلية التي يقصدها السوريون في ذروة الصيف، مثل صلنفة وكسب، هرباً من حرارة الداخل، ومع كل موسم، تضجّ منصّات إنستغرام وسناب شات بمقاطع مصورة دعائية ينفذها “بلوغرز” لقاء مبالغ مالية أو إقامة مجانية. هذا العام، اشتدّت الحملات التسويقية مع الحديث عن “سوريا الجديدة” بعد رحيل الأسد، بيد أنّ الهوّة بين الواقع والإعلان ظلت جليّة.
فعلى سبيل المثال، تراوحت أسعار الغرف في منتجع روتانا (المشروع العاشر) بين 500 ألف ومليونٍ ونصف المليون ليرة سورية في الليلة الواحدة، بحسب الموقع والتصنيف، وفي منتجع الشاطئ الأزرق، بلغ سعر الغرفة المفردة 600 ألف ليرة، والمزدوجة مليوناً ونصف المليون كذلك. أما “الشاليهات” المستقلة قرب منتجع لاميرا، فأسعارها تبدأ من مليون ليرة لليوم الواحد، وتزداد تبعاً للتجهيز والموقع.

وليد، شاب مغترب عاد إلى سوريا بعد سقوط النظام السابق، أعرب عن صدمته من الأسعار. “في تركيا تدفع ما يقارب 100 دولار أمريكي لليوم في منتجع أربع نجوم مع خدمات ممتازة؛ في سوريا تدفع المبلغ ذاته أو أكثر لقاء خدمات متواضعة”، يوضح وليد لشبكة الصحافة الحرة، ويضيف: “الأسعار غير منطقية وفيها استغلال واضح.. بعض المغتربين الذين قصدوا الساحل لاسترجاع ذكرياتهم غادروه بعد أيام قليلة نتيجة الصدمة من الأسعار وتردّي الخدمات”.
في منتجع بورتو طرطوس تبدأ الأسعار من 80 دولاراً لليوم، بينما لا تقلّ في منتجع جونادا عن 100 دولار، وهي أرقام توازي، بل تتجاوز، أسعار منتجعات مجاورة في تركيا أو لبنان، من دون أن تضاهيها في مستوى الخدمة، وحتى الفنادق التقليدية ليست أقل كلفة؛ إذ يتراوح سعر الغرفة المفردة بين 50 و75 دولاراً، فيما تصل المزدوجة إلى 100 دولار. أرقام تُثقل كاهل متوسطي الدخل السوريين، بل وتفوق أحياناً أسعار خدمات مشابهة في دول الجوار.
في المقابل، ظهرت بدائل مقبولة في المناطق الجبلية كصلنفة وكسب، حيث يمكن استئجار شقة بسعر يتراوح بين 30 و50 دولاراً في اليوم، وهو سعر ما يزال في متناول بعض العائلات متوسطة الدخل أو المغتربين ذوي الموارد المحدودة. في المطاعم والمقاهي، بقيت الأسعار مرتفعة نسبياً، وإن لوحظ تحسّنٌ في مستوى الخدمة والتنظيم استجابةً للضغط الشعبي أو رغبةً في استقطاب الزوار.
حضور خجول في المنتجعات… والشواطئ الشعبية تنتعش
على الرغم من انطلاق الإجازات، لم يُسجّل حضور كثيف في منتجعات عروس البحر أو المناطق القريبة من الرمال الذهبية، وحتى الأخيرة شهدت تراجعاً في عدد الزوار مقارنة بالسنوات السابقة، ولم تُلحظ تلك الكثافة المعهودة في الحجوزات أو الإشغال في منتجعات شاهين وروتانا والشاطئ الأزرق، التي كانت تُحجز عادة بالكامل في مواسم الأعياد.
في المقابل، شهدت الشواطئ الشعبية، حيث لا تُفرض رسوم دخول أو تُطلب مبالغ رمزية، إقبالًا واسعاً من ذوي الدخل المحدود والمتوسط، ولا سيّما سكان ما كان يُعرف بـ”المناطق المحررة” الذين حُرموا لسنواتٍ من زيارة البحر بسبب الحواجز الأمنية والرقابة المشددة. قصد هؤلاء الشواطئ المجانية لاستعادة شعور “الانتماء إلى الساحل”، ولو في ظروف اقتصادية قاسية.

على الرغم من بعض النشاط في الشاطئ الأزرق وروتانا، بدت منتجعات مثل شاهين وهوليداي بيتش شبه خالية مقارنة بالأعوام الماضية.
يقول منذر، وهو شاب من اللاذقية: “كان الحضور جيداً في صلنفة وكسب، لكن السنوات السابقة شهدت ازدحاماً أكبر. جزء كبير من الناس اختفى.. الشبيحة الكبار سافروا، والناس من المحافظات الباقية خافت من الوضع الأمني، وفي ناس فضّلت تبقى ببيوتها وما تغامر”.
أما علي، العامل في أحد فنادق الساحل، فيؤكد أنّ نسبة الإشغال انخفضت عن الأعوام المنصرمة، عازياً ذلك إلى الأسعار المرتفعة، وتراجع الدخول، والمخاوف الأمنية، مضيفاً في حديث مع شبكة الصحافة الحرة أنّ بعض الفنادق (كالاميرا) تأوي حالياً عدداً من قيادات السلطة الانتقالية في اللاذقية، ما يدفع كثيراً من الزوار إلى تجنّب الإقامة فيها. كذلك، بات نادي الضباط، بفروعه في اللاذقية والشاطئ الأزرق وطرطوس، مشغولاً اليوم بجهات عسكرية تابعة لوزارة الدفاع، بعدما كان في الماضي مفتوحاً أمام عامة السوريين بأسعار رمزية.
مخاوف أمنية تطغى على الموسم السياحي
رغم الحديث عن “موسم ما بعد الأسد”، لم تتلاشَ هواجس الأمن من ساحل سوريا؛ بل على العكس، أصبحت عنصراً ثابتاً في معادلة الرحلات. فإلى جانب قرار وزارة السياحة الأخير المتعلق باللباس، والذي قسّم الشاطئ إلى خاص يُسمح فيه بالبكيني والعادات الغربية، وعام يُفرض فيه “البوركيني” وتغطية صدر الرجال، عادت أسئلة الطبقية والانقسام لتُخيّم على المشهد السياحي.
في منتجع الدراسات، تتابع دوريات وزارة الدفاع مرتادي الشاطئ، ولا سيّما من يرتدون “شورتات” أو يحملون المشروبات، ما أدّى أحياناً إلى حدوث مشادات، وأسهم في شعور الزوار بأنهم تحت مراقبة دائمة. هذه التدخلات، وإنْ خلا بعضها من السند القانوني، فإنها تُعيد الإحساس الأمني ذاته إلى المشهد البحري.

في بانياس، يُعدّ “التريّث الأمني” العنوان الأبرز؛ فالمدينة ما تزال بعيدة عن الموسم السياحي، ليس بقرارٍ رسمي، بل لأن سكانها العلويين لم يتجاوزوا بعدُ حال التوجس التي خلّفتها الأحداث الكبيرة الأخيرة. التجمعات على الشواطئ لم تعد خياراً، وكل دعوةٍ لنشاط جماعي تُقابل بحَذَرٍ، وكأن البحر جزءٌ من منطقة مراقبة.
أما في طرطوس، فتضاعفت المخاوف عقب تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق في 22 حزيران 2025، ما جدّد القلق المجتمعي، خصوصاً بين المسيحيين الذين يشكلون جيدة من السكان. ارتفع مستوى الحذر في أماكن التجمّع البحري، حيث يشعر كثيرون أنّ الموسم السياحي صار في المقام الأول مساحة مراقبة، لا متنفسّاً للراحة.
في المحصلة، تبدو شروط الموسم السياحي على الساحل السوري مؤطرة بثلاثية: حرية مقيدة بقرار اللباس، وحضور أمني يمارس رقابةً مباشرة حتى على الأنشطة الاعتيادية، وخوف مجتمعي قائم تتجلّى ملامحه في مدن مثل بانياس وطرطوس. يبقى السؤال: هل سيكون البحر هذا الصيف متنفساً للسوريين، أم ساحةً يخيّم الحذر فيها أحد أبرز رموز الحرية: البحر؟
